"اتفاق القاهرة" الذي وُلد ميتاً ومات مظلوماً
06 Jun 202506:45 AM
"اتفاق القاهرة" الذي وُلد ميتاً ومات مظلوماً
نداء الوطن

نجم الهاشم

نداء الوطن
في 15 حزيران 1987 أُلغي "اتفاق القاهرة" رسمياً بعدما وافق مجلس النواب برئاسة الرئيس حسين الحسيني على إلغائه في 21 أيار قبل أن يوافق على القرار رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص ورئيس الجمهورية أمين الجميل. بعد 38 عاماً، في 15 حزيران 2025، ينتظر أن يبدأ تنفيذ قرار سحب السلاح الفلسطيني من المخيمات على مراحل. قبل ذاك الاتفاق ومعه، وبعد إلغائه، استمرّ الجدل حول السلاح الفلسطيني ودوره في لبنان قبل أن يصير سحبه مطلباً للسلطة الوطنية الفلسطينية.

في حزيران 1982 انتهى عملياً الدور الكبير الذي أدّاه السلاح الفلسطيني في لبنان مع بدء التراجع أمام الاجتياح الإسرائيلي. في آخر آب 1982 ركب ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الباخرة وخرج من لبنان عبر مرفأ بيروت بحماية عسكرية أمّنتها البوارج الحربية الأميركية والفرنسية، بعدما كانت سبقته دفعات من المقاتلين خرجت تباعاً عبر البحر أيضاً. كان عرفات مدركاً أنّه يدخل مساراً جديداً وأنّ خروجه من بيروت يضع نهاية حزينة وكارثية لتجربة الكفاح المسلح التي خاضها منذ إطلاق أول عملية لحركة فتح في أول عام 1965.
التحوّل الكبير في المشهد ظهر بوضوح من خلال مراسم وداع عرفات بمشاركة رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، وأقطاب الحركة الوطنية، ورئيس حركة أمل نبيه بري. ومن اللافت أنه بعد كلّ هذه الأعوام وبعدما كان خيار السلاح مطلب تنظيمات لبنانية كثيرة غطّته وقاتلت من أجله ومن أجل تغيير النظام في لبنان، أن يعود عدد كبير من هذه التنظيمات إلى تبنّي مطلب تسليم هذا السلاح في انقلاب للمقاييس ولو بعد ستين عاماً.

عندما حكم عرفات لبنان من الفاكهاني

تحت ضغط الشارع والعمل المسلح والتقاء مصالح دول عربية كثيرة استضعفت النظام اللبناني كان "اتفاق القاهرة" في 3 تشرين الثاني 1969 الذي وقّعه عن لبنان قائد الجيش العماد إميل البستاني ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات وسمحت بموجبه السلطة اللبنانية بالعمل الفلسطيني المسلح ضمن حدود معينة. ولكن هذا الاتفاق كما ظهر لم يكن المسؤول عن كل هذا المسار. قبله كانت العمليات الفلسطينية مستمرة ومعه استمرت وبعده بقيت. كأنّه لم يكن إلا اتفاقاً شكلياً وتعبيراً عن سقوط الدولة اللبنانية والتنازل عن السيادة الأمنية والسياسية. هذا الأمر لم يخفه عرفات عندما أعلن بعد خروجه من بيروت أنّه كان يحكم لبنان من مقرّه في الفاكهاني في قلب العاصمة.

ولكن تلك أيضاً لم تكن نهاية الطريق. كان عرفات يدرك أن خروجه من بيروت إلى تونس بعيداً عن فلسطين وتشتيت مقاتليه بين اليمن والجزائر، يعني نهاية دوره ودور منظمة التحرير، لأن ما أعطته إياه بيروت لا يمكن أن تعطيه إياه أي دولة عربية أخرى. وأدرك أنّ الخيارات المفتوحة أمامه ضيقة ومحدودة بسبب الضعف الذي أصاب العالم العربي، وهو لم يتوانَ عن وصفه بالزمن العربي الرديء، وخصوصاً مع انفجار الصراع بينه وبين نظام حافظ الأسد في دمشق، بعدما وجد نفسه في مواجهة حصارين حصار إسرائيل من الجنوب وحصار الأسد من الشرق والشمال.

من بيروت إلى طرابلس إلى القدس

قبل أن يذهب عرفات في تبنّي الخيار النهائي حاول أن يعود إلى الخيار اللبناني. بطريقة سرّية وبزورق تسلّل ذات ليلة من ليالي شهر أيار عام 1983 إلى شاطئ طرابلس في الشمال. هناك كان مخيّما البداوي ونهر البارد لا يزلان خارج السيطرة السورية وخارج تداعيات الاجتياح الإسرائيلي وخارج دائرة الهجرة القسرية. وكانت في المدينة قوى إسلامية وحزبية مؤيّدة له. ولكن تلك التجربة لم تكن طويلة. تنبّه النظام السوري لما كان يخطّط له الزعيم الفلسطيني خصوصاً أنّه كان يقترب من الحدود السورية. بواسطة قوى فلسطينية، وحزبية لبنانية، مؤيدة له، وبتدخّل من جيشه حاصر النظام السوري عاصمة الشمال وشنّ الحرب على المخيّمين الفلسطينيين، فوجد عرفات نفسه أمام حصار جديد، واعتبر أنّ نظام الأسد يكمل ما بدأته إسرائيل. وتحت ضغط العملية العسكرية السورية وتشديد الحصار عليه في طرابلس وبعد تدخّلات عربية ودولية وجد عرفات نفسه أمام قرار صعب جديد يقضي بخروجه مع مقاتليه من طرابلس. في 20 كانون الأول 1983 نقلتهم خمس بواخر يونانية من مرفأ المدينة إلى هجرة وتشتّت جديد بحماية من سفن حربية فرنسية برعاية أميركية ومراقبة إسرائيلية. قبل أن يصل إلى تونس عرّج عرفات على القاهرة. في 22 كانون الأول التقى الرئيس المصري حسني مبارك الذي لم يكن قد مضى أكثر من ثلاثة أعوام على توليه رئاسة الجمهورية بعد اغتيال الرئيس السادات وثباته في استراتيجية السلام واتفاقات كامب دايفد. عندما اعتلى عرفات ظهر الباخرة في طرابلس أعلن أنّ "الكفاح لم ينتهِ بعد. سوف نستمرّ حتى نصل إلى القدس، عاصمة دولتنا الفلسطينية". وكان طريق القدس يمرّ عبر القاهرة وليس عبر دمشق.

انتهاء خيار السلاح

كان خيار عرفات سلوك طريق القدس عبر السلام يعني بشكل أساسي انتهاء خيارات الكفاح المسلح الذي كلّفه وكلّف الفسطينيين غالياً وانتهى إلى نتائج كارثية، ليس على مستوى العمل العسكري في لبنان فحسب بل على مستوى العمليات الأمنية التي استطاعت إسرائيل من خلالها اغتيال أكثر من مسؤول فلسطيني. صحيح أن المنظمات الفلسطينية نفّذت عمليات جريئة في أكثر من دولة وفي داخل إسرائيل، ولكنّها كانت معركة غير متكافئة مع عدو يمتلك قدرات هائلة وإمكانات لا حدود لها. كانت الساحة اللبنانية آخر ساحات المواجهة المفتوحة. عام 1970 حاول عرفات أن يكون الأردن ساحته ولكن الصراع انتهى لمصلحة الملك حسين. ومنذ ذلك التاريخ صارت ساحة لبنان هي ملعب الزعيم الفلسطيني الوحيدة. صحيح أنه غادرها إلى خيارات أخرى ولكن طبيعة الصراع تبدّلت. لم يعد السلاح الفلسطيني يريد تغيير نظام الحكم في لبنان فتلك التجربة انتهت إلى غير رجعة. بل صار دور هذا السلاح حماية القرار اللفلسطيني المستقل وخيارات عرفات الجديدة في طريقه نحو السلام واتفاقات أوسلو. من هذه الخلفية كانت حرب المخيمات التي بدأتها حركة أمل ضد الفلسطينيين منذ العام 1985 تحت شعار منع عودة ياسر عرفات إلى بيروت. ولكن تلك المواجهة أرهقت الحركة التي كانت تقاتل نيابة عن النظام السوري، ورسّخت سيطرة القوى المؤيدة لعرفات على مخيمات الجنوب في عين الحلوة والمية ومية والرشيدية.

حرب تموز 1991

في حزيران 1991 أنذرت السلطة اللبنانية برئاسة الرئيس الياس الهراوي الفلسطينيين بوجوب الانسحاب من المناطق التي يحتلّونها خارج المخيمات في شرق صيدا، وتسليم السلاح الثقيل. عندما لم يستجب الفلسطينيون لتنفيذ القرار حصلت في تموز معارك محدودة انتهت بسيطرة الجيش اللبناني على محيط المخيمات ولكن بقي موضوع السلاح من دون حل. طوال هذه المرحلة كانت تحدث تطورات كثيرة على المستوى الفلسطيني من خلال تخلّي السلطة الوطنية الفلسطينية الناشئة بعد اتفاقات أوسلو عن خيارات الصراع المسلح، وانتقال عدد من المقاتلين من مخيمات لبنان إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي المقابل كانت بدأت تنمو حركة "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي" وكان مخيّم عين الحلوة بدأ يستقطب المعارضين لخيارات عرفات، والإسلاميين الهاربين من الملاحقة الأمنية الذين سيطروا على أحياء داخل المخيم قبل أن تحصل انشقاقات جديدة داخل حركة "فتح".
عباس في بيروت

شكلت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان في 21 أيار الماضي نقطة تحوّل في مسار العلاقات اللبنانية الفلسطينية وفي موضوع السلاح الفلسطيني الذي صار تسليمه مطلبا رسمياً فلسطينياً بالتوافق مع السلطة اللبنانية برئاسة الرئيس جوزاف عون وفي ظلّ حكومة الرئيس نوّاف سلام. ولذلك تم وضع جدول زمني تبدأ مرحلته الأولى في 15 حزيران في مخيّمات بيروت. ولكن ما بدا أنّه سهل التنفيذ نظرياً يبدو أنّه صعب التحقيق عملياً، في ظلّ استحالتين: ذهاب الحكومة اللبنانية إلى الخيار العسكري، وخضوع كل التنظيمات الفلسطينية لقرار الرئيس عبّاس وتسليم السلاح بالإضافة إلى استحالة ثالثة تتعلّق برفض "حزب الله" لهذا الخيار لأنّه يعتبر أنّه مقدمة للانتقال إلى خيار فرض تسليم سلاحه. وبالتالي هو يعتبر أن عرقلة مسألة تسليم السلاح الفلسطيني تعني حكماً إنهاء مطلب تسليم سلاح الحزب.

كل ذلك يحصل بغياب "اتفاق القاهرة". مع هذا الاتفاق أو بدونه كان السلاح الفلسطيني سيلعب كل الأدوار التي لعبها. وبالتالي إن تحميل هذا الاتفاق مسؤولية استباحة هذا السلاح للسيادة اللبنانية ظالم وغير مقنع.