دمعة في عيني المسيح

"كل نقطة دم تسقط في الشرق هي دمعة من عيني المسيح"... وأعيننا تشخص منذ اليوم (اثنين الرماد) إلى الصليب المرتفع على جبل الجلجلة، وقلوبنا تنبض مع مراحل دربها وآلامها الأربع عشرة، علَّنا نكون سمعانَ فنحمل عن فادي البشر على أكتافنا خشبة الخلاص، أو فيرونيكا فنمسح عن وجهه الدم والعرق بمنديل من إيمان ورجاء، ونتذكَّر من أنكر أو خاف أو شكَّك أو خان، فنتعلَّم ونعتبر، ونحزن على من تآمر لأنه عبد الحرف لا ابن الكلمة التي تحيي، أو غسل يديه من دم من وجده صدِّيقًا لكنه خنع وخضع لأصوات المفترين، فلا نعود نحكم إلَّا بالعدل.

 

 

 

"دمعة في عيني المسيح"... ما أعظمك أيُّها الراعي الصالح اسمًا على مسمّى، تحمل بشارةً، اسمًا على مسمى أيضًا، أينما حللت، من صلب حضارة المحبة ومن لبِّ دين التسامح والغفران ومن حدث القيامة المجيدة، ولسان حالك ما نطق به السيد المسيح، قبل أن يسلم الروح، على صليب تحوَّل مذذاك رمزًا للمجد والتحرر بعدما كان، طويلًا، رمزًا للعار: "أغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون".

 

وما أدراهم ماذا تفعل، وما أدراهم ما هم فاعلون؟ لهم جهلهم، ولك أن تقول كلمتك وتمشي.

 

زرتَ سوريا، بمباركة فاتيكانية، للمشاركة في احتفال تنصيب بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، الذي حضره بطاركة الشرق أجمعين، لتكون إلى جانب نظرائك في أفراحهم وأتراحهم، تعكسون صورة الكنيسة الجامعة، وإلى جانب أكثر من مليوني مسيحي من مختلف المذاهب في سوريا، يعيشون وكثيرين من أبنائها، قلقًا مصيريًّا، فتترجم بذلك قول السيد المسيح: كنت جائعًا وعطشانَ وعريانًا وسجينًا ومريضًا، فأطعمتموني وسقيتموني وكسوتموني وزرتموني وعدتموني... وتضيف، بخطوتك الشجاعة الرؤيوية هذه، إلى الآية الإنجيلية: "كنت خائفًا فطمأنتموني".

 

 

 

أنت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، وثمة مئة ألف ماروني في سوريا، هم جزء مهم من رعيتك الكبيرة المنتشرة في أقطار العالم الأربعة، وهم متحلقون حيث عاش أبو المطائفة مار مارون، وسؤال خاطرهم والوقوف على أحوالهم، واجب الراعي الذي يعرف خرافه، وخرافه تحبه. كانت الحجة، المفهومة والمبررة قبلًا، وطوال ثلاثين عامًا (بين 1975 و2005)، أن عدم تفقد أبناء الرعية السوريين، سببه الاحتلال السوري للبنان، كموقف رافض لهذا الاحتلال. أما اليوم، وقد انسحب الجيش السوري، فالحجة سقطت، لا بل باتت الزيارة ضرورية، في ضوء ما تشهده سوريا من صراع دمويّ، بطُل أن يكون بين موالٍ ومعارض، بمقدار ما أصبح، وبعد سنتين على اندلاعه، نزاعًا دوليًّا إقليميًّا على أرضها. زيارة راعوية لا تدعم جهة سورية على حساب أخرى، وحسبها تبلسم جراحًا، ولو بقربانة يتناولها مؤمن من يدك.

 

وهذا ما فعلت... أما الذين انتقدوك وهاجموك، فهل يدرون ماذا فعلت، وما هم فاعلون؟

 

لنفترض أنك قابلت خلال الزيارة أي مسؤول سوري رسمي، ولو كان بشار الأسد... فهل كنت لتقول له غير ما أعلنته منذ توليك كرسي أنطاكيا، ورددته خلال احتفال التنصيب، وهو أن "الديمقراطيات والإصلاحات لا تساوي قطرة دم إنسان بريء"؟ ثم، أوليس النظام السوري الحالي هو الذي ما زالت تعترف به الأمم المتحدة، فهل يريدونك أن تكون "أمميًّا" (لا ملكيًّا) أكثر من جامعة الأمم (لا الملك)؟ ذنبك، يا صاحب الغبطة والنيافة ربما، أنك لم تعلن كم علبة حليب أخذت معك وكم بطانية كي تدعم الشعب السوري، ولا عقدت مؤتمرًا صحافيًّا مدويًّا مزلزلًا وجلجلًا، لتبرر عملك الخيري هذا!!!

 

أنت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق مار بشارة بطرس الراعي، هذا ما نحن نعرفه، تختلي بربك وتستلهم الروح القدس في كل عمل تقوم به وكل خطوة تخطوها، ونخضع لسلطتك الدينية والأبوية ونعترف لك بها دون سواك. ولا نعترف، ولن نعترف، بمار فارس بطرس سعيد "الكلِّي الأمانة العامة" الذي نصَّب نفسه مرشدًا لك، يملي عليك ما يجب أن تفعله.

 

وأنت بصفتك هذه، يا سيدنا، وحدك من يعرف توقيت أي حراك تأتي به، من أجل خير أبناء كنيستك ووطنك... فما باله النائب خالد الضاهر ينصح لك بأن "الزيارة ليست في وقتها"؟ ألأنه لا يناسب توقيت جمهوريته العظمى الحرة التي يظن أنه أنشأها في بعض مناطق لبنان وجيشه اللبناني الحر الذي لوح بتأسيسه، كي يحرر سوريا من نظام كان حتى أمس نيابي قريب، من مؤيديه؟

 

وأنت بصفتك هذه أيضًا، يا من أعطي لك مجد لبنان، تقيم الذبيحة الإلهية كل يوم، ولم يخطر في بال أي منا يومًا، أن ثمة أرعنَ، أو بالأحرى "ولدًا بلا مربى"، سيتجرأ على قدسية هذه الذبيحة فيصفها بالشيطانية، حتى إذا أراد تصحيح خطيئته هذه، لا خطأه فحسب، وقع في خطيئة أكبر بجعلك - قال - شريكًا للشيطان. ولا عجب أن يطلب هذا "البلا مربى" من وزارة الداخلية تطويق أي قداس تقيمه، من ضمن حملتها على عبدة الشياطين، إلا إذا استبقت النيابة العامة غيَّه بسوقه إلى القضاء بتهمة الإساءة إلى رأس الكنيسة المارونية وإثارة النعرات الطائفية والقدح والذم والتحقير. وعساها فاعلة اليوم قبل غد.

 

 

 

واسمح لي يا صاحب الغبطة، وبين هلالين، وبما أن الابن بالأب يذكر، أن أعلمك أن أبا هذا الأرعن جعلنا نعتقد أن الرائد بيار بشعلاني لم يكن واجبًا إدراج اسمه على لائحة شهداء الجيش اللبناني، بل كان ينبغي إيراده في تقرير لقوى الأمن الداخلي عن ضحايا حوادث السير، وأن الرقيب ابراهيم زهرمان أيضًا، في رأي أبي الأرعن، ليس شهيدًا كذلك، بل متسبب بالقتل، لأنه هو من رهس الضابط بشعلاني. وعليه، تكون قضية عرسال حادث سير عابرًا، فليختم التحقيق فيها، ولترفع الإجراءات الأمنية والعسكرية عن البلدة، وليطوَّب رئيس بلديتها ويرقَّى إلى رتبة الأبرار الصالحين.

 

أما بعد، يا صاحب الغبطة والنيافة، فلن يكون منك إلَّا أن تغفر لهؤلاء وغيرهم، ممن ادَّعوا أن أنفسهم حزينة وأنهم لم يصدقوا أنك "فعلتها" وزرت دمشق، لأن ثمار خطوتك المنبثقة من روحية المسيحية، ستينع قريبًا ويقطفها الجميع مشرقًا متنوِّعًا لا أحاديًّا، بحضور مسيحي فاعل ومتفاعل مع بيئته ومحيطه المسلم، تجسيدًا وترجمة لنصَّي السينودوس من أجل لبنان والسينودوس من أجل كنائس الشرق الأوسط.

 

 

 

وأما دمعة المسيح... فليست كل نقطة دم تسقط في الشرق وحسب، بل هي أيضًا دمعة، عشية ذكرى آلامه وموته على الصليب وقيامته، يذرفها أسًى على من يدَّعي الإيمان به ومعرفته، من دون أن يعمل بوصاياه. كأني بالشاعر جوزف حرب كان يقصد هؤلاء حين قال:

 

"أَلْفا سَنَهْ

 

مَرَّتْ عَلى مَوْتِ الْمَسيحِ،

 

وَما تَفَتَّحَ مِنْ حَدائِقِ روحِهِ

 

فِي الأَرْضِ

 

حَتّى سَوْسَنَهْ".