السانحة التاريخيّة

قلّما لاحت أمام المسيحيّين فُرَص أو سوانح لتحقيق ذاتهم وتثبيت حضورهم، كما هو حاصل اليوم .

والفرصة الحقيقيّة ليست في الطُعْم الخادع، بل المسموم، الذي دُسَّ لهم، تحت شعار " 64 نائباً بأصوات مذاهبهم "، بل في المنحى الحداثي الذي يسلكه قادة مسلمون في لبنان والثورات العربيّة، برغم اهتزاز هذه الثورات وانحرافاتها تحت ضغط الأنظمة وبقاياها .

صحيح أنّ "المشروع المذهبي" يحكّ على حساسيّات المسيحيّين ويستجيب أمنيتهم في المناصفة العدديّة، لكنّ الطرح السياسي المتقدّم في قيم العصر يحاكي عقولهم ويستجيب إرادتهم في دولة مدنيّة حديثة تشكّل حضانة حقيقيّة مستقرّة لرسالتهم وحضورهم وفعلهم في الحياة العامّة .

المناصفة التي يحقّقها المشروع الإنتخابي المذهبي ليست سوى رقم جامد يجعل المسيحيّين ضحيّة لعبة عدديّة طالما سَعَوا إلى التخلّص منها، فإذ بهم يقعون في شِرْكها، ويبهرهم مظهرها البرّاق .

أمّا الأفكار والمشاريع السياسيّة التي يطرحها سعد الحريري، كمرجعيّة إسلاميّة فاعلة، في غمرة التحوّلات العربيّة، فتشكّل مساحة حرّة أمام المسيحيّين كي ينقلوا لبنان إلى مفهوم الدولة الحديثة التي تُقيم وزناً للمواطنين وليس للرعايا، للقيمة وليس للعدد، للحقوق المدنيّة وليس لحصص الطوائف .

لا شكّ أنّ الحريري تمتّع بشجاعة مميّزة في مشروعه، على الأقلّ في نقاط ثلاث: حياد لبنان، الزواج المدني، الدائرة الصغرى والنظام المختلط . فضلاً عن إعادة تجنيس المنتشرين واللامركزيّة الإداريّة ومجلس الشيوخ، مع الإبقاء على المناصفة في مجلس النوّاب .

والحقيقة أنّ احتفال الـ "بيال" كان معبّراً عن حماسة بيئته لمواقفه وسياسته. لكنّ معظم هذه النقاط قد لا يخدمه إنتخابيّاً. فضّل التعرّض للّوم أو النقد في بيئته، على الكسب المذهبي الطارئ كما يفعل أحد "زعماء" المسيحيّين في الشحن الطائفي الذي يمارسه بمنهجيّة فاقعة وأسلوب استفزازي ممجوج .

هذا الشحن اليومي، قد يأتي بغلّة أصوات في الإنتخابات فيستفيد الشاحن موقّتاً بزيادة نائب هنا أو هناك إلى كتلته، ولكنّ المسيحيّين يخسرون دائماً .

من يريد للمسيحيّين أن يربحوا دنياهم وآخرتهم، أي حاضرهم ومستقبلهم، عليه أن يخرج من حسابات الدكّنجي اليوميّة، إلى رحاب رسالتهم في لبنان والمشرق .

فماذا يضير المسيحيّين أن يكون لهم 54 نائباً بأصواتهم، و 10 بأصوات مشتركة، كما ينصّ بعض المشاريع المطروحة ؟ وفي المقابل، عددٌ مماثل من النوّاب المسلمين بغالبيّة أصوات مسيحيّة كما هي الحال في جبيل وبعبدا وزحلة ودوائر أخرى؟ .

أتركوا فُسحة للتفاعل بين الناس، يا تجّار الشعارات وباعة المبادئ. وفكّروا قليلاً بواقع الجدران العازلة التي تبنيها إسرائيل وإيران وعائلة الأسد حول نفسها، بل في الجدار الذي يرفعه "حزب الله" بترسانته ومشروعه. فهل أعجبتكم هذه النماذج إلى الحدّ الذي أردتم تقليدها؟ وهل بناء الجدران والمتاريس من التعاليم والقيم المسيحيّة؟.

لا يريد المسيحيّون لأنفسهم حالة التشرنق التي تدعونهم إليها. ولن تنجحوا في عزلهم .

هناك أفق آخر أمامهم، فتحته مبادرة "تيّار المستقبل"، يطوي الورقة الصفراء التي سُمّيت ذات يوم أسود "تفاهما" .

ولا مجال للمقارنة بين الورقة والمبادرة: الأُولى تقديس للسلاح، والثانية تكريس للسلام . الأُولى صكّ التحاق وموت، والثانية وثيقة شراكة وحياة. إنّ أيَّ عاقل مسيحي يلمس الفرق الجوهري والإستراتيجي بين الإثنتين .

ولم تكن موافقة "حزب الله" بسهولة على المشروع المذهبي إلاّ لكونه بنداً خفيّاً في ورقة "التفاهم": تحويل لبنان إلى معازل ومربّعات يسهل التحكّم به بقوّة سلاح "المقاومة"، وربطه بالمشروع الإيراني .

لقد جاء من يطرح على المسيحيّين دولة مدنيّة بالقيم العالميّة ذات الجذور المسيحيّة، وشراكة خارج العدد، فهل ينجرفون، تحت ذريعة الهجمة الأصوليّة، في الدولة الدينيّة والمجتمع المغلق ولعبة الأعداد البادئة

بالمناصفة والآيلة حكماً إلى المثالثة فالمرابعة... فالإضمحلال؟

بين مفاهيم الدولة الحديثة، وإغراءات المذهبيّة، بين الكسب السريع والربح الثابت، على المسيحيّين أن يختاروا.

وليس صعباً أن يتبيّنوا مصلحتهم الحقيقيّة بين الإتّجاهيْن: الدولة المدنيّة الحديثة تحلّ مشكلتهم بصورة دائمة وثابتة، والإغراء المذهبي مخدِّر نفسي موقّت، بعده آلام وصرير أسنان.

أمامهم فرصة تاريخيّة، وسوانح التاريخ لا تتكرّر دائما.