عمر حرقوص
المستقبل
في بداية تسعينيات القرن الماضي حينما عاد الشهيد بيار الجميل من المنفى حيث عاشت العائلة خارج لبنان، وجد نفسه أمام حزب أسّسه جدّه وقاده أبوه وعمه ضائعاً وموضوعاً تحت يد "وصاية" سورية. كان بيار مؤمناً أن البقاء في لبنان والنضال من أجله سيكون مكلفاً بأغلى ما يملكه الإنسان، ولذلك فهو لم يترك مجالاً للتراخي طوال هذه السنوات وعمل جاهداً لتطوير نفسه ولإعادة الحزب إلى حضن الوطن وكذلك لإعادة الوطن مع رفاقه إلى الإستقلال من "الوصاية". نجح بيار ولكنه استشهد عشية عيد الاستقلال في العام 2005 بعدما بدأت حركة الانقلاب على الدولة من حلفاء النظام السوري.
في مرحلة العودة إلى لبنان واجه بيار الكثير من الضغوط فهو ابن الرئيس أمين الجميل المنفي في ذلك الوقت، وهو كان يمثل مرحلة جديدة لا يعرفها النظام الأمني المشترك. لذلك بدأت عمليات التهديد والمنع ومحاولات الإقصاء، لكن بيار بإيمانه بالحرية والديموقراطية استطاع تجاوز الحواجز كلّها والنضال مع رفاقه الكتائبيين والاستقلاليين اللبنانيين وصولاً إلى 26 نيسان 2005 تاريخ انسحاب آخر مخابراتي سوري من لبنان.
يلتقي الشهيد النائب بيار الجميل مع الحرية من بابها الواسع، فهو استطاع مواجهة الديكتاتور، والصمود حتى آخر لحظات حياته مؤمناً بأفكاره، فالنائب الشاب الذي قاد حزب الكتائب من حضن "سطو" الوصاية إلى رحاب الوطن، اغتيل وبقيت ابتسامته في الذاكرة، تحرك القاتل برصاصه في أكثر ساعات النهار ازدحاماً وفي ظل هجمة سياسية على قوى 14 آذار قام بها حلفاء سوريا، كادت تودي بلبنان في ظل انحدار أمني أدى إلى احتلال بيروت وعدد من المناطق اللبنانية في السابع من أيار من العام 2008.
لم يكن ذلك الاغتيال هو الأول في تلك المرحلة، وهو الذي أتى من ضمن سلسلة المقتلة التي حاولت إعادة سوريا ووصايتها من الشباك بعدما تمّ إخراجها من الباب. قتلٌ أتى أيضاً من أجل تأبيد سيطرة السلاح الحزبي والميليشيوي في وجه منطق بناء الدولة، سقط بيار لكن الحزب أكمل طريقه في صناعة الحرية إلى جانب أبناء وطنه. ذلك الحزب الذي حرّك فيه بيار روح الشباب والحرية، حرية ارتبطت هذا العام مع تحرّكات الشباب العربي من تونس إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا، حيث بدأت تنتصر ثورات الشعوب في وجه الطغاة والديكتاتورية ولو تأخر بعضها لكن الأكيد أن سيرورة التاريخ والمستقبل ستكون من صالح الناس الذين يواجهون الرصاص برموش أعينهم.
قبل خمس سنوات كان الرئيس سعد الحريري أول من نعى الجميل خلال مؤتمره الصحافي. يومها اتّهم سوريا بالضلوع في الاغتيال. وقال "يريدون قتل كل لبناني حر. بدأوا مسلسل الاغتيالات الذي وعدوا به".
أما رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي حوصر في السرايا الحكومية بعد اغتيال الشهيد بيار، فقال "القتل لن يرهبنا ولا اليد الآثمة أياً كانت، ونحن في الحكومة سنضطلع بكل مسؤولياتنا للحفاظ على مصالح اللبنانيين وأمنهم وسلامتهم". وشدّد يومها على أن هذه الجريمة "تجعلنا أشدّ التزاماً بضرورة قيام المحكمة الدولية التي تردع المجرمين في سبيل حماية كل اللبنانيين ووضع حدّ لمسلسل الإجرام المستمر".
خمس سنوات ويستمر بيار الجميل بالحضور بين الناس من خلال حزبه وعائلته وأصدقائه، هو واحد من قليلين من اصحاب ابتسامة تبقى في الذاكرة مدى العمر، ومن أناس استطاعوا خلال عمر قصير صنع المعجزات في شرق كان يهوي إلى الحضيض فرفعوه عالياً من انتفاضة الاستقلال في العام 2005 إلى انتفاضات شعوب العالم العربي التي تحمل نسائم الحرية والديموقراطية على بلادنا.
[باتريسيا الجميل
في ظل ثورات الشعوب العربية التي تحصل اليوم يمكن القول أن حلم بيار بدأ يتحقق من ناحية حق الشعوب في تقرير مصيرها، فكيف إذا كانت هذه الشعوب هي التي يرتبط معها لبنان بتاريخ طويل من العلاقات كمثل الدول العربية. وتقول باتريسيا الجميل زوجة الشهيد بيار أن "حياته كانت مبنية على مبادئ الحرية والديموقراطية، فهو ابن بيت له تاريخه الطويل في النضال من أجل وطنه وهو أيضاً ابن حزب سياسي تاريخي في لبنان صنع مع اللبنانيين استقلالهم الأول، ومعه استطاع هذا الحزب مع قوى 14 آذار صناعة الاستقلال الثاني في العام 2005 ".
وتشير إلى أن "الشهيد بيار لطالما حلم بلبنان الحرية والوطن المشترك لكل اللبنانيين من كل الطوائف والأديان والأفكار السياسية المتنوعة"، وتتابع عن الثورات العربية قائلة "لكل بلد خاصيته في الحريات، ولكل بلد طريقه الخاصة للوصول إلى الديموقراطية رغم كل المصاعب التي قد يمر بها، كما المصاعب التي عاناها وعاشها بيار ورفاقه خلال نضالهم لتحقيق حرية بلدهم. فبيار كان موجوداً هنا في أصعب الظروف وأحلكها بين الناس، وهو كذلك كان موجوداً في ساحة الحرية في العام 2005 وناضل مع الناس على الأرض".
باتريسيا ترى أن بيار لم يكن ليتخوف على المسيحيين في الشرق من الثورات العربية مع اختلافها وخصوصياتها من دولة لأخرى، فالمسيحيون موجودون في هذه الأرض منذ ألفي عام ولم يرحلوا رغم كل الظروف التي عاشوها، واستطاعوا أن يرسوا مكانة يحمون بها أنفسهم وبقائهم ومشاركة الآخرين لبناء لأوطانهم، ولذلك فهم سيبقون في أرضهم يتمسكون بها رغم كل الظروف وكل التغيرات لأنهم جزء منها".
وتعتبر أن "بيار هو خليط من تربية عاشها في بيته مع والده ووالدته وأخوته وحزبه وكذلك عمله بين الناس، ما سمح له أن يكون حاملاً لفكر لبناني. كان مؤمنا بلبنان بكل طوائفه، كجامع جذري بعيداً من الانقسام، فهو كمسيحي لم يتعاطَ مع هذا الوطن إلا كعيش مشترك قادر على تقديم نموذجه الخاص بعد جلجلة الحروب الأهلية التي تداخلت مع المشاكل الإقليمية ".
ابن حزب الكتائب انطلق بين الناس ليعيد مع رفاقه فكرة لبنان الميثاق والتعايش في مواجهة التقسيم والانقلابات، وكذلك النضال الطويل في مواجهة الإحباط الذي أرسته "الوصاية" بعد سيطرتها على لبنان.
وعن عمل ومسار المحكمة الخاصة بلبنان، ترى باتريسيا أنها " في مسارها الصحيح. تأخّرت لكنها بدأت تظهر حقائق كثيرة كان يمكن أن تغيب في بلد قتل فيه الكثير من القادة السياسيين من دون الوصول إلى القاتل. واليوم وفيما نتذكر الشهيد بيار في ذكراه الخامسة تستكمل المحكمة عملها وهذا ما سيؤدي لاحقاً إلى إرساء مفهوم العدالة في وجه كل عمليات القتل".
وعن حزب الكتائب الذي يمثل أفكار بيار، فهي ترى أملاً كبيراً ببقاء هذا الحزب حاملاً لفكرة لبنان التطور الديموقراطي الاجتماعي. بيار أعاد تأسيسه بعد تصويب وجوده في السياسة اللبنانية، وخلق روحية جديدة بين الشباب الكتائبي ساهمت في إعادته إلى الأحزاب القيادية في المجتمع اللبناني، واليوم يستكمل هذه المهمة شقيقه سامي ورفاق آخرون لم يتوقفوا عن النضال من أجل لبنان الدولة والحلم. فحين اسس بيار الجميل (الجد) الحزب في العام 1936 كان يصنع البذرة الأولى للعمل الديموقراطي، ومع بيار الشهيد استطاع هذا الحزب أن يطوّر نفسه كبذرة قادرة على الاستمرار، وشارك في صناعة الاستقلال الأول، وكان شريكا عبر بيار في صناعة الاستقلال الثاني".
[أمين الجميل (الحفيد)
فتى كتائبي صغير، يحفظ أغاني الحزب، ويحتفظ بأسراره الخاصة عن الألعاب التي كان لها تسمياتها الخاصة مع والده الشهيد بيار. له نفس الابتسامة وينظر كطفل إلى الأمور . كأنه يكرر صورة الأب، عجينة خاصة تأتي بالفطرة تشبه بيار الشهيد كثيراً. يقف قرب والدته وكأنه رجل، ويقترب منها لتضع يدها على شعره فيعود طفلاً صغيراً مشاكساً، في ذاكرته الكبيرة الكثير عن والد لا يمكنه أن ينساه.
قبل ثلاث سنوات كان ينظر إلى السماء كثيراً علّه يرى والده ماراً فيها في مكان ما ، لكنه اليوم يلعب مع شقيقه الكسندر، ويرتفع صوته عالياً كأي طفل يلتزم بما تطلبه منه أمه باتريسيا، وينتظر اصدقاءه ليلعب معهم، ويبتسم فرحاً عندما يسمع من الناس مدى شبهه بوالده.
يقول أمين الحفيد إنه لن يتوانى عن العمل طويلاً من أجل أن لا ينسى الناس والده الشهيد، فهو أب رائع، يفرح حين يتحدّث الناس عنه وخصوصاً أمام رفاقه. يقول امين انه كان موجوداً بالقرب من والده حين وصلته اللاصقة الشعار "اذا بتحب لبنان حب صناعتو" والتي ألصقها الشهيد على سيارته، يتذكره أيضاً كلما كان في مكان وشاهد شيئا يحمل هذه العبارة التي عمل لاجلها والده.
يشير إلى أنه كتائبي لأن والده يحب الكتائب، ولأن هذا الحزب هو عائلته، يتابع "وإذا كانت الكتائب عائلة بيار يعني هالشي انها عائلتي".
[البايع، الرفيق
لبيار البائع قصته الخاصة مع الشهيد بيار، فهو كان في مصلحة الطلاب الثانويين في حزب الكتائب عندما كان يشارك بجناز رئيس حزب الكتائب الوزير جورج سعادة. كان يحمل إكليلاً من الورد حين أخبره بعض الشبان أن الشيخ بيار موجود في الكنيسة، ترك الإكليل وذهب ليتعرّف إليه، كانت المرة الأولى التي يلتقيان بها، لكنها كانت فاتحة اللقاءات الدائمة والتواصل المستمر.
يروي بيار البايع كيف أنه ومجموعة من الحزبيين تعلّموا الكثير من بيار في السياسة والعلاقات الاجتماعية، من عقد اللقاءات مع القوى السياسية إلى النقاشات الداخلية، وأكثر ما كان يؤثر فيه هو قدرة هذا الرجل على اختراق الحواجز مع الآخرين من دون استثناء.
في التاسع من آب من العام 2001 كان البايع يشارك في اعتصام العدلية، وعندما بدأ أفراد النظام الأمني اللبناني السوري المشترك حملتهم لاعتقال الشبان وضربهم، احتمى خلف الشهيد بيار لأنه كان يعتبره دائماً القادر على ردّ الضربات عنه، يتذكرها البايع اليوم كأنها حدثت بالأمس حينما رأى الألم في عيون الشبان وهم يضربون ويعذبون.
يتذكر البايع كيف أنه في إحدى المرات كان الشباب الكتائبيون يقومون بتنظيف وتحسين شكل أحد المراكز الكتائبية في الكورة حينما زارهم الشهيد بيار بشكل مفاجئ، وبدأ العمل معهم كأي فرد منهم وليس كزائر آت من بيروت. كانت صورة القائد الشبابي تكبر بعيون رفاقه الذي يصرون دائماً على اعتباره طريق وصولهم إلى حزب الكتائب كما حلموا ان يكون حزبهم.
يشير البايع إلى أن بيار كان يتابع هموم الحزبيين والزوار القادمين من كل المناطق في تلك المرحلة، وخصوصا ظروف المعتقلين، وفي الوقت نفسه كان يتحدث إلى الشباب حول أوضاع المؤسسات الإعلامية التي يملكها الحزب من الإذاعة إلى جريدة العمل و"بيت المستقبل".
وأكثر ما كان يزعج الشهيد بيار هو هجرة الشبان اللبنانيين، لأنها الخسارة الكبيرة كما كان يقول، كان يشجع الشبان الحزبيين على تدبّر عمل لهم في لبنان رغم كل الظروف وعدم الهجرة. حمل همّ إعادة حزب الكتائب إلى مكانته ونجح بذلك، كان يتصل بكل كتائبي ليشجعه على العمل من ضمن المؤسسة الحزبية، ليكبر الحزب ويستمر مع قيادته الجديدة.
يشتاق البايع إلى الشهيد بيار، فهو كان كالملاك في حياتهم، حين كانوا يلاحقون من قبل "الأجهزة" أو من قبل حزبيي حلفاء سوريا، كانوا يتصلون به يبلغونه بأي إشكال فيتابع خطواتهم حتى يصلوا بيوتهم بأمان.
[فرح، الصديق
شخصية طوني فرح ليست ببعيدة عن شخصية الشهيد بيار، هذا ما يمكن أن يراه الشخص عندما يتحدث لأول مرة معه، والسبب أن طوني رفيق الشهيد منذ طفولتهما من المدرسة. يتحرك كله كأنما يحاول أن يخرج بعضاً من بيار إلى الحديث، يقول إن الذاكرة تحمل الكثير، ولكن الحديث عن رجل شفاف وحساس وعطوف وصخرة مثل بيار ليس أمراً عادياً.
يعتبر طوني أن الشهيد من الناس القلائل الذين لهم صفات خاصة من الإنسان إلى القائد والصديق والأب، صلابة ممزوجة بحنان يهتم بالناس، ويحاول حل مشاكلهم. بابه ظل مفتوحاً للناس إلى آخر لحظة من حياته، يسمع آراءهم من حوله ويتخذ القرار المناسب دوماً.
يخبر قصصاً عن الناس الذين دخلوا مرات عديدة إلى مكتب الشهيد أو بيته يطلبون مساعدة. يشير طوني إلى أن شعار الشهيد في الوزارة قاله للموظفين منذ اليوم الأول "أنا مواطن لبناني، جئت لخدمة أي مواطن لبناني، لأن هذا المواطن يدفع ضريبته لنكون في مراكزنا ومواقعنا، ولذلك فالوزارة هي لتقديم خدماتها لكل الناس من دون استثناء وبلا تربيح جميلة". ويتابع "كان لا يفرق الناس لا بالدين ولا بالسياسة، همّه أن يكون الانسان المناسب في المكان المناسب".
عرف بموقفه الواضح تجاه الحقائق، اراد الحقيقة كما هي من دون زيادة أو نقصان.كان يتعرف إلى وجوه الناس في المرة الأولى ولا ينساهم أبداً، في التجمعات الكبيرة يقصد أشخاص محددين لهم قصصهم الخاصة يلقي عليهم التحية ويسألهم عن أحوالهم، يخبرهم كيف تذكرهم من بين كل الموجودين، لأنهم أهل شهداء أو مصابين في حرب ما ولم يجدوا إلى جانبهم أحد.
رمّم بيار الحزب مدماكاً مدماكا، وأعاد له مكانته بعيداً من جماعة الوصاية، وهو ابن أمين وجويس الجميل وشقيق سامي، وسيظل كما كان في قلوب رفاقه رجل الحرية والاستقلال كما يقول طوني.