الخشية المسيحية على سوريا أكبر من الخوف منها.. ولذلك كان «الرباعي»
كلير شكر

كلير شكر

السفير

في ميدان «الفايسبوك» حيث كتب البلاغ الرقم واحد لسقوط النظام «الفرعوني»، كان اللاعبون اللبنانيون متحمسين لنظرائهم المصريين في اجتياحهم شوارع القاهرة. يواكبون يومياتهم لحظة بلحظة، خبراً بخبر، وصرخة بصرخة. بعض الشباب من «الضفّة» اللبنانية لموقع التفاعل الاجتماعي الأكثر شهرة واستقطاباً، تطوّع في سبيل قضية «تحرر» «أرض النيل»، ولمساندة رفاقهم «الفايسبوكيين» في معركة إسقاط النظام. صور ميدان التحرير كانت تقفز من «حائط» إلى «حائط» شحذاً للنفوس والهمم، وتكريساً لواقع «القرية الكونية».
وعلى بعد أمتار، من «بلاد الشام»، لا تبدو حماسة أهل الفايسبوك من اللبنانيين، على سابق عهدها، فما يحصل في سوريا لا يترك أثراً بالغاً على خريطة تحرك «الجيران». هدوء حذر يشبه نبض الشارع اللبناني، وتحديداً البقعة المسيحية منه، التي ترصد المشهد الدمشقي بكل دقائقه، وتحاول استقراء مستقبله.
لا مكان للمبالاة في يوميات الوسط المسيحي، أياً يكن تصنيفه الثقافي والاجتماعي، من أحداث درعا ومحيطها، يشعر هؤلاء بأنهم معنيون بكل نقطة تسجّل، سواء لمصلحة المحتجين أم خصومهم في السلطة. من «بلاد الياسمين»، وصولاً إلى «أرض الكنانة»، مروراً ببلاد عمر المختار، مشهد يصعب إسقاطه على «عاصمة الأمويين». للشام خصوصيتها في علاقتها مع الجار اللبناني، امتداد طبيعي وتاريخي وتشابك عائلي واجتماعي... وحدودي قد ينتهي في المعالم الجغرافية، ولكنه لا يعرف صفحة ختامية.
يقول سياسي لبناني عتيق إن العلاقات بين لبنان وسوريا تستند إلى «مفهوم ميثاقي» عقد تاريخياً بين أمراء الجبل وحكّام بلاد الشام، ويقضي بأن يحترم هؤلاء استقلال الجبل وخصوصيته، مقابل أن يتولى الأمراء حماية الثغور. للثغور معنى عميق في اللاوعي السوري، ناتج من الخوف من المؤامرات التي قد تأتيهم من خلف البحار، التي كان أمراء الجبل أسياداً عليها. لطالما نظر السوريون إلى تلك الجبال المحاذية لأرضهم، والتي استضافت خليطاً متنوعاً من الناس، على أنها خاصرة رخوة، قد تعرّض أمنهم للخطر، ولطالما تعاملوا معها على هذا الأساس.
ذلك المفهوم تطور في التعبير الكلامي، وإن حافظ على جوهره، وصار على شاكلة، «أمن سوريا من أمن لبنان والعكس صحيح»، أو على طريقة «لا نريد لبنان ممراً ومقراً للاستعمار» كما جاء في البيان الاستقلالي على لسان رياض الصلح. وكلّها دروب تؤدي إلى طاحونة الاستقرار في علاقة الجارين، والتي لم تعرف «الدوزنة» إلا في حالات نادرة، ذلك لأن دمشق لم تكترث لاستقلال لبنان، فيما الحكام اللبنانيون لم يتولّوا تحصين «الخاصرة الرخوة».
مقاربتان تاريخيتان تحكمان العلاقات السورية - المسيحية وفق القراءة «الآذارية»، واحدة مرفوضة من النظام السوري، وأخرى منبوذة من مسيحيي لبنان. سوريا البعث وسوريا الأسد. المسيحيون لطالما تطلعوا إلى التعاون مع سوريا الأسد المتفهّمة للأقليات في المنطقة. بينما القيادة السورية تعاملت مع محيطها على أساس العقيدة البعثية، ما ولّد سوء التفاهم بين الفريقين منذ عصور.
ويوم أعلن حافظ الأسد في خطاب 21 تموز 1976 أنه يريد إنقاذ المسيحيين، ظنّ هؤلاء، وفق الجردة «الآذارية» أن الدخول العسكري لقواته إلى لبنان، يهدف إلى مساندتهم، إلا أن شهر العسل لم يدم طويلاً، لأن المسيحيين اكتشفوا أن السوريين يريدون الإمساك بالوضع اللبناني من خلال الورقة المسيحية.
ولكن وفق السياسي العتيق ذاته، فإن ثابتة أساسية تشكّل واحدة من ركائز حكم الأسد، أباً وابناً، وهي الحفاظ على التنوع الطائفي في لبنان، بما في ذلك حماية المسيحيين. يوم دخلت القوات السورية إلى لبنان، كانت تضع نصب عينيها تثبيت هؤلاء في أرضهم. وبتقديره إذا كان المسيحيون قد بكوا دمعاً من الدور السوري في لبنان، منذ العام 1975، وحتى 2005، فإنهم اليوم سيبكون دماً فيما لو أصاب النظام السوري أي مكروه.
هذا المجهول الذي قد يرتسم في حال تعرّض النظم السوري لخطر «الانفلاش الشعبي»، يرتسم على شكل هواجس في أذهان القيادات المسيحية. بمقدور السياسي العتيق أن يحسم أنه قلق عابر لعقول قادة الموارنة كافة، على اختلاف اصطفافهم السياسي، بدءاً من حلفاء دمشق، الأقربين والأبعدين، وصولاً إلى خصومها. ويقول إن الخوف هو الدافع الأساسي لالتقاط الصورة المارونية الرباعية الاستثنائية في بكركي. فما عجز عنه أسلاف البطريرك بشارة الراعي، تحقق بفعل الظروف الدقيقة المحيطة.
بحسب نظرة السياسي نفسه، فإن الخوف من تداعيات دراماتيكية للمشهد السوري، قد لا تكون محسوبة النتائج ومضمونة الخواتيم، هو الذي حمل «ديوك الموارنة» إلى «التنازل» للجلوس وجهاً لوجه تحت «قبّة» البطريركية، على الرغم من «أودية» الخلافات والخصومات التي تبعد بينهم. الخوف على المصير حافز أساسي وراء التموضع الجديد للقيادات المسيحية.
إذ إن مسيحيي الرابع عشر من آذار يشعرون أن أخصامهم يعيشون حالة قلق استثنائي نتيجة المجهول الذي يلفّ «النظام الحليف»، دفعت بهم إلى القفز فوق مطبات الماضي. كما أن قيادات الأغلبية الجديدة ذات الانتماء المسيحي، تميل إلى الاعتقاد أن الخوف من غدٍ قاتم هو الذي دفع خصومها إلى تقليص المسافات للجلوس الى طاولة واحدة.
كثيرة هي «المؤشرات» التي يتداولها السياسيون المسيحيون، والتي ترفع من منسوب الخطر بنظرهم، تبدأ بالأخبار الواردة من درعا وتتحدث عن «مشاريع انفصالية لإنشاء إمارات إسلامية»، ولا تنتهي بالمناشير ترمى بين الحين والآخر في شوارع المدن السورية، «مهددة» الوجود المسيحي، من دون إهمال «خطورة» استضافة أنقرة لنشاط الإخوان «المسلمين» السوريين.
رياح التغيير التي هبّت على العالم العربي، لم تحمل الطمأنينة إلى نفوس كثر من المسيحيين. يكفي استعراض النموذج المصري بعد ارتدائه الثوب الديموقراطي بأبهى حلّته، والذي طالب «إخوانه» بحكم الشريعة عليه، كما وقوفه بوجه تعيين محافظ لقنا في صعيد مصر، فقط كونه من الطائفة القبطية التي يفاخر أبناؤها بمنح اسمهم لبلاد النيل، للتأهب مما تحمله «الشعارات الانقلابية». هو «شبح» السلفية الذي يخيّم على المنطقة، متسللاً من مربّع إلى آخر... وإذ به يدق أبواب الوجود المسيحي. معادلة متداولة بين القوى المسيحية، تقولها بصراحة، وهي تراقب التطورات السورية المتسارعة.
يشعر مسيحيو لبنان، وفق السياسي العتيق، أن تعاظم الإيديولوجيات المتطرفة في العالم العربي، صار خطراً داهماً، لم يعد مجّرد «فزاعة» تلوّح بها بعض الأنظمة الحاكمة، بل صار أمراً واقعاً، يستدعي وعياً كافياً لمواجهته.
الكتائب التي ارتسمت تاريخياً في وجدان المسيحيين على أنها «بكركي المدنية»، لا تجد حراجة اليوم في التعبير عن مخاوفها من الأحداث المتسارعة على المسرح الدمشقي. إذ إن السائرين خلف الثورات التي يشهدها العالم العربي، قد لا يقطفون ثمارها. وعوض وقوع هذه الثورات في مطب الانقلابات العسكرية، كما حصل في الخمسينيات، ثمة خوف من وقوعها في مستنقع التطرّف الديني.
لا تقتنع الكتائب، كما مسيحيو الأغلبية الجديدة بنظرية تعميم النموذج التركي المعتدل. ويقول نائب رئيس حزب الكتائب سجعان قزي، إن الحزب الحاكم في تركيا هو إسلامي، قدّم نفسه بوجه معتدل رغبة بالانفتاح على جيرانه الأوروبيين، وكي لا يخيف العلمانيين، وكي يقدم نفــسه محاوراً مع العالم العربي. ولكن ما الذي يمنــع في حال سيطــرته على الجيــش والجمــهور، من الكشــف عن قناعه الإسلامي؟
لا تخفي الكتائب خوفها من تمدد البحر الأصولي تجاه لبنان، ولو عبر حالة اجتماعية، في حال سقوط «الدفاعات الدمشقية». إذ بنظر قزي، فإن الخطر سيلف الوجود المسيحي المشرقي إذا لم يكن موارنة لبنان أقوياء، فيما هؤلاء سيصيبهم الضعف إذا لم يكن امتدادهم العربي المسيحي قوياً.
التركيبة المتعددة في «بلاد الأمويين»، تثير الخوف من وقوع فتنة طائفية، يخشى أن تؤدي إلى تمزيق الجسد السوري. فيما تجد الكتائب نفسها أمام وضع يتعارض مع مصالح المسيحيين، كما يرى قزي، ذلك لأن أقصى طموح الكتائب هو تكريس اللامركزية الموسّعة، لكن انفراط العقد السوري، قد يجرّ معه العقد اللبناني، بما يتناقض مع مصالح المسيحيين، الذين يرفضون التقسيم سواء كانوا أقوياء أم ضعفاء.
بالنتيجة، لا مصلحة للمسيحيين في تغيير النظام السوري، في ظل غياب ضمانات جديّة تحصّن الوحدة السورية والنظام العلماني الديموقراطي.
تتقاطع هذه الرؤية، مع جدول الحسابات التي تجريها قيادات «التيار الوطني الحر»: التركيبة السورية حجر الزاوية في المنطقة، وانهيارها سيؤدي حكماً إلى سقوط الدومينو الواحد تلو الآخر. يكتفي هؤلاء بتشريح مفردات بيان «حزب التحرير» للتحذير من خطاب طائفي متطرّف يقف خلف الأبواب.
سنوات الخصومة بين «الوصاية السورية» و«المناضلين البرتقاليين»، لم تبق هؤلاء أسرى الماضي. لم تكن معاداة سوريا هدفاً لـ«التيار الوطني الحر»، «لقد فتحنا صفحة جدية فور إقفال صفحة التوتر». وقد تكون المرّة الأولى التي يقارب فيها «العونيون» ملف العلاقات مع سوريا من هذا المنظار، فالخوف من البديل للنظام السوري يضـــعهم في مرتبــة المتــرقّب الحذر.
وإذ يعتبر هؤلاء أن الإصلاح حاجة ضرورية للشعوب، لكن هذه الثورات تتعرّض وفق المنظور «البرتقالي» للتخريب من جانب الدول الكبرى التي تسعى خلف مصالحها السياسية والاقتصادية، إلى جانب القوى السلفية التي تحاول تسلّق سلّم الانتفاضات لتكريس حضورها في السلطة... وحتى النموذج التركي لا يطمئن مخاوفهم، ما دام المشهدان العراقي والمصري كانا مؤلمين بحق الوجود المسيحي وحقوقه.
تلك النظرة «الانقلابية» للعلاقات السورية - المسيحية قد لا تجد آذاناً صاغية في الشارع المسيحي. البقعة المسيّسة منه تتفاعل مع خطاب قيادتها بسلاسة، وتلعب معه على الوتر نفسه. ولكن للنشاز موقعه في هذه الأوركسترا المنوعة الآلات. وهناك من تتحكم به غرائزه فتحرّكه خلفية تاريخية دفينة، تحمله على متن قراءة ساذجة، إلى الرهان على سقوط النظام السوري من باب «الانتقام».
وهناك من يذهب في «تبنّيه» للقضية السورية إلى حدّ القول، «لطالما ردّد أركان «الجبهة اللبنانية» أمام المسؤولين السوريين، أنه في حال تعرّض دمشق لأي أذى، فإنها لن تجد في لبنان إلا المسيحين إلى جانبها»... وها هي اليوم هذه المعادلة تحقق ذاتها. حتى لو اجتاحت لبنان التظاهرات المؤيدة لسقوط النظام السوري، وحدها البقعة المسيحية ستكون بمنأى عن هذا التوجه.