شمس الدين الكيلاني
المستقبل
قامت وحدة مصر وسوريا في 22 شباط من عام 1958 بعد سلسلة من حلقات التقارب بينهما، في خضم مواجهتهما المشتركة لسياسات الأحلاف، ومن أجل ترسيخ الاستقلال الوطني، بدأت الحلقة الأولى في عام 1955 بتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بينهما، ثم وضعت الحكومة السورية في برنامجها في حزيران 1956 إقامة اتحاد بين البلدين، وفي أيلول 1957 وقعت الحكومتان اتفاقية الوحدة الاقتصادية. وقد وصل الموج الوحدوي، في سوريا، ذروته عام 1957 بحيث لم يعد أحد من النخب السياسية السورية قادراً على إظهار تردده، وصف رودنسون المشهد بقوله: «كان هناك جيشان على جميع الصُعد، يذكرنا بالفترات الثورية الكبرى، التي أيقنت فيها الجماهير الواسعة، أن تطلعاتها التي أُغفلت مدة طويلة، قد اكتسبت شرعيتها دفعة واحدة، بفضل زعماء جدد حملوا إلى السلطة، بواسطتها أو بدونها فاندفعوا وراءهم، ودفعتهم معها دفعة واحدة».
أُعلن في قلب هذا الحماس الشعبي، عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، الذي حوله السوريون والمصريون إلى عرس حقيقي، شاركهم في أفراحه العرب في جميع أنحاء أصقاعهم، حينها شعروا أنهم في هذا اليوم بدأوا بصنع مستقبلهم بأنفسهم، بعد أن كانوا موضوعاً لسياسات الدول العظمى، وأن وحدة العرب انتقلت من الدائرة الضيقة لحذلقة المثقفين والأحزاب والنخب إلى حقيقة ملموسة أمامهم، تلتف حولها الكتل المليونية من العرب..
عندما قام الانفصال في 28 أيلول 1961، مستغلاً أخطاء الحكم الاستبدادي، تمسكت أكثرية الشعب السوري بالجمهورية العربية المتحدة، ورفضت الانفصال. فقد ميّزت أكثرية السوريين بنباهة بين المطالبة بإصلاح إدارة الحكم وبين استهداف كيان الدولة كدولة، ولم يضرها وقوف أغلب الطبقة السياسية السورية بما فيها الشيوعيون والبعث وراء الانقلابيين.
لقد أرغمت الاحتجاجات الشعبية المستمرة الجميع البحث عن مخرج، وقد استغلت الفرصة (اللجنة العسكرية البعثية) التي ناصبت عبد الناصر وقيادة البعث لأنها أيدت الوحدة، فعملت على الانقلاب وساندها الناصريون وأنصار الوحدة، فقامت حركة 8 آذار بذريعة القضاء على الانفصال ولاستعادة الوحدة، فخرجت أغلبية الشعب السوري تطالب بعودة الوحدة، لكن (اللجنة العسكرية) ذات الهوى الطائفي استخدمت صلابتها التنظيمية واستخدامها الروابط الجهوية والطائفية لتدعيم الاجهزة المخابراتية والجيش بالعناصر الموالية، من وراء ظهر شركائهم في الانقلاب الذين يفتقرون إلى التنظيم. واستخدموا قيادات البعث المدنية واجهة مؤقتة لتمرير خططهم. ففي حين كان المتظاهرون في دمشق والمدن السورية الأخرى يرفعون شعار عودة (الجمهورية العربية المتحدة)، ووفود سورية والعراق ومصر يتباحثون من أجل صيغة جديدة للوحدة، شرعت (اللجنة العسكرية) في ترسيخ المؤسسات السلطوية والبيروقراطية للدولة السورية لتصبح أسوارها عصية على الاختراق من قبل الشعب السوري، وعلى وجه الخصوص أنصار الوحدة وعبدالناصر. وعملوا على ضرب استراتيجية عبد الناصر، ففي حين قدم عبدالناصر شعار: عبر الوحدة والتنمية نحو حل المسألة الفلسطينية، رفعت شعاراً جديداً: عبر تحرير فلسطين وحرب التحرير الشعبية والاشتراكية نحو الوحدة، فتداعت الأحداث وصولاً إلى هزيمة 5 حزيران، وخسران فلسطين والوحدة والحرية.
وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على هزيمة حزيران، بقيت الذهنية التي تتحكم في سلوك النظام السوري في الداخل والخارج هي نفسها التي أوصلتنا إلى الهزيمة، التفرد بالسلطة والقرار، الاستبداد، وتضخيم الأنا العصبية السلطوية الطائفية، ووضع نفسها في وجه المجتمع السوري وضده، وتوجيه المدافع إلى صدر السوريين وبيوتهم كلما اقتضى ذلك احتفاظه بالسلطة، ودوام طرائقه في الاستبداد. رفع دائماً شعارات (الوحدة والحرية والاشتراكية، وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، واعتمد شعاراً يردده أفراد الجيش وطلاب المدارس كل يوم، وهم يعلمون أن هذا مجرد شعار لا أحد في السلطة وخارجها يأخذه محمل، إنها شعارات يحاول أن يغطي فيه أفعاله وسلوكه اللذين يتناقضان مع هذه الأهداف، لقد حافظ النظام بالفعل على عدائه المدمر لعبدالناصر وللجمهورية العربية المتحدة، وعمل كل ما يلزم ليحيط سوريا بالأسوار التي تفصلها عن العروبة. مرة تحت شعار الصمود والتصدي، ومرة أخرى تحت شعار الممانعة! وأبقى الحدود مقفلة بين العراق وسوريا من عام 1980 حتى الغزو الأمريكي للعراق فقضى على التوأمة القائمة منذ زمن بعيد بين بغداد- دمشق، وحلب الموصل. إلى جانب إنكاره الدائم للواقع، والتعامل مع ما تفبركه ذهنيته المريضة من أوهام ثم التعامل معها على أنها حقيقة ثابتة. وعندما أتى حكم الأسد الأب حاول الأخير عمل ما في وسعه أن يماهي بين شخصه وسوريا، وأراد أن يقيم علاقات البلد بالدول العربية على الطريقة الاستبدادية التي أقامها مع الشعب في الداخل، وقدم في تجربة علاقته مع لبنان نموذجا للطريقة الوحيدة التي يتقنها ويريدها لصنع (الوحدة العربية) وهي الوحدة القائمة على تمثله للبلد الآخر في حضيرة سلطانه، وتحت حماية ورقابة أجهزته المخابراتية. ولما ثار اللبنانيون من أجل حريتهم كان قد زرع لهم (الفتنة) في حواضرهم عندما رعى منظمة عسكرية بالتعاون مع إيران تحمل اسم (الله) لتكون دولة شيعية طائفية في قلب كيان سياسي قائم على التوازنات الطائفية، ولتكون أداة تهديد لهذا الكيان، فوضع النظام بذلك تعارضاً مفتعلاً بين بناء دولة المواطنة الديمقراطية و(المقاومة)!ولقد عمل كل ما يلزم لتكون سوريا كياناً مخيفاً لدول المشرق العربي يهددها بتصدير الفتن والإرهاب وليس عامل وحدة واطمئنان. ولا ينسى السوريون أنه عمل كل شيء مع من سبقوه وبدونهم من زملائه، لينسى السوريون مثال 22شباط وعواطفهم المشبوبة التي استقبلوها فيها.
والآن يمارس النظام التدمير والقتل الممنهج بالشعب السوري الثائر من أجل الحرية والكرامة منذ آذار 2011، يمارس ذلك تحت شعار الأسد أو نحرق البلد! فبعد أن وضع الأسوار الشاهقة ليفصل سوريا عن مجالها العربي، يعمل الآن على تمزيق البلد إرباً إرباً على قاعدة التخوم الطائفية، وهو الذي أشبع ضجيج إعلامه أسماع العرب بالحديث عن العروبة وفلسطين والوحدة وملحقاتها ! لقد صارت المهمة الرئيسية أمام السوريين بعد ما فعله النظام من قتل وتدمير، والترويج نظرياً وعملياً للطائفية ومذابحها هي استعادة الروح الوطنية والوحدة واستلهام دروس 22 شباط المجيدة.