كتب القاضي حاتم ماضي والمحامية جوديت التيني في "النهار":
في تاريخ 27/9/2021 توقّف المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت عن متابعة التحقيقات في الدعوى لأنّ أحد الخصوم تقدّم بطلب أمام محكمة الاستئناف المدنيّة في بيروت لردّه. وبموجب المادة 125/ أصول مدنية فإنّه بمجرّد تقديم طلب الرد يتوقف القاضي عن متابعة العمل الى ان تقرّر محكمة الاستئناف عكس ذلك.
أثارت هذه الدعوى الكثير من الاستهجان.
نشير في البداية الى انّ جميع القضاة العدليين سواء كانوا من قضاة المحاكم المدنية او قضاة المحاكم الجزائية او من قضاة النيابة العامة، واستطراداً من قضاة التحقيق، يخضعون لقاعدة الرد والتنحّي عند توافر الاسباب التي حدّدها القانون.
وإذا كان القاضي المطلوب رده من قضاة المحاكم المدنيّة فإنّ النص الذي يرعى حالته هو نص المادة 120 وما يليها من قانون اصول المحاكمات المدنية.
أما إذا كان القاضي المطلوب رده من قضاة المحاكم الجزائية، فإننا نلاحظ ان قانون اصول المحاكمات الجزائية لم يتكلم على مسألة الرد وانما تكلم في المادة 340 منه عن نقل الدعوى او التحقيق من مرجع قضائي الى آخر، وحدّد اسباب النقل ومنها الارتياب المشروع، وحصر بمحكمة التمييز الجزائية وحدها حق رفع يد مرجع قضائي عن الدعوى، "واحالتها الى مرجع آخر من الدرجة نفسها لمتابعة النظر فيها..."
ما يعني انّ المشرّع اشترط وجود مرجع قضائي آخر سواء في التحقيق او الحكم لكي تحال اليه الدعوى يكون موازياً للمرجع الذي نُقلت الدعوى من تحت يده. فالمرجع المنقولة اليه الدعوى، إذا لم يكن موجوداً، يكون النقل غير قانوني لأننا نكون قد نقلنا الدعوى الى مرجع غير موجود، أي الى الفراغ.
وتكون تنحية القاضي الجزائي محكومة بنص المادة 120 من قانون اصول المحاكمات المدنية وما يليها، لأنه من المتّفق عليه انه عند انعدام النص في قانون أصول المحاكمات الجزائية يطبَّق قانون الاصول المدنية باعتبار انّ هذا القانون الاخير هو القانون العام.
من جهة اخرى، يتبيّن من مطالعة المادة 128/ اصول مدنية انّ أحكام الرد لم تتناول قضاة التحقيق وانما تناولت قضاة النيابة العامة والخبراء والمحكّمين.
ولهذا فقد دأب الاجتهاد في لبنان على المساواة بين قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق لناحية اجراءات الرد، بحيث إذا كان رد عضو النيابة العامة الاستئنافية من صلاحية المحكمة التي يكون تابعاً لها، اي محكمة الاستئناف الجزائية (الفقرة 2 من المادة 128/ أصول مدنية)، فانّ ردّ قاضي التحقيق يكون من صلاحية المحكمة نفسها.
ومحكمة التمييز الجزائية تكون صالحة هي الأخرى لرد النائب العام التمييزي.
ويجب عدم المساواة بين المجلس العدلي ومحكمة التمييز او محكمة الاستئناف...لأنّ المجلس العدلي هو محكمة خاصة واستثنائية لأسباب كثيرة اهمها:
- انه مؤلف من خمسة قضاة ويرأسه الرئيس الاول لمحكمة التمييز واعضاؤه من قضاة محكمة التمييز ويعيّنون جميعهم بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء (المادة 357/أصول جزائية).
- ينظر المجلس العدلي بالجرائم التي حددتها المادة 356/اصول جزائية وبجرائم أخرى قد ترد في مرسوم الإحالة.
- يضع المجلس العدلي يده على الدعوى بناءً على المرسوم الذي يصدره مجلس الوزراء بإحالة قضية ما اليه استناداً الى حق الحكومة الاستنسابي والمطلق discrétionnaireالنابع من سيادتها السياسية في ان تحيل جرائم على المجلس العدلي حتى لو كانت هذه الجرائم جنحاً او غير منصوص عليها في القانون. وهذا الامر نابع من سلطة الحكومة في الشأن القضائي.
هذا الحق الذي تملكه الحكومة يُعتبر من فئة الاعمال الحكوميةactes de gouvernement التي لا تخضع لأي طريق من طرق المراجعة لأنها قرارات سياسية سيادية ولو تناولت شأناً قضائياً.
يضاف الى ما تقدم ان لدى المجلس العدلي محققا خاصا ad hoc تابعا له يعيّنه وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الاعلى (المادة 360/أصول جزائية) بالاستناد الى مرسوم الإحالة الى المجلس العدلي الصادر عن الحكومة. وتكون مهمّة هذا المحقق محددة في زمانها ومكانها وموضوعها وتنتهي بوضع القرار الاتهامي واحالته الى المجلس العدلي.
في الخلاصة نقول انه من الثابت ان المحقق العدلي ليس محققاً تابعاً لمحكمة التمييز او لمحكمة الاستئناف كي يحق لأيّ منهما ان تقرّر ردّه وتنحيته، كما تفعل بالنسبة الى النائب العام لديها، انما هو تابع للمجلس العدلي ويشكل معه وحدة عضوية متكاملة.
كما انّ محكمة الاستئناف المدنية مختصة للنظر بطلبات تنحّي وردّ القضاة التابعين لمحاكم الدرجة الأولى ومحكمة الاستئناف، وهي محاكم لا يتبع لها المحقق العدلي، وذلك خلافاً لقضاة التحقيق في المحافظة.
لقد رأت محكمة الاستئناف المدنية في بيروت في قرار لها (رقم 261/2007) (صدر هذا القرار بمناسبة تنحية المحقق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري) انه لا يوجد أي ترابط بين المحقق العدلي في نطاق عمله وبين دوائر التحقيق في المحافظات، وبالتالي، لا يوجد أي رابط أو صلة أو تبعة بينه وبين محكمة الاستئناف، فهو لا يخضع لرئاسة قاضي التحقيق الأول (في بيروت). كما أنّه يختلف في طريقة تعيينه وممارسة وظيفته وفي طبيعة القرارات التي يصدرها عن قاضي التحقيق.
وانّ المحكمة تكون محكومة بقواعد التفسير الضيّق للنصّ التشريعي الذي يستند إلى النيّة الحقيقية للمشرّع لحالات الرد وأسبابه، فالتوسّع في التفسير أو الاخذ بالقياس من شأنه أن يوسّع في صلاحية محكمة الاستئناف لتشمل حالات من طلبات الرد لم يرد المشرّع إدخالها ضمن صلاحية محكمة الاستئناف، وهو ما يُشكل تجاوزًا على النص ونية المشرّع وبالتالي خرقاً لدور القضاء وهو الالتزام بالنص واعماله في اطاره القانوني السليم ومن دون تجاوز.
ونحن لا نعتقد أنّه يحق للمجلس العدلي ان يرد قاضي التحقيق لديه لأنّ هذا المحقق معيّن بقرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الاعلى سنداً للمرسوم عينه الذي بموجبه وضع المجلس العدلي يده على الدعوى، ذلك لأنّ مرسوم الإحالة يولي المجلس العدلي صلاحية الزامية للنظر بالدعوى لأنّ الحكومة عندما تحيل جريمة على المجلس العدلي تكون قد مارست اختصاصاً قضائياً بتعيين مرجع للنظر بالجريمة، وهذا المرجع يشمل في ما يشمل المحقق العدلي، وهذا سبب آخر واضافي للقول بعدم اختصاص محكمة الاستئناف المدنية لرد المحقق العدلي في جريمة المرفأ.
بيد انّ المحقق العدلي ليس عصياً عن الرد لأنه وفقاً لقاعدة توازي الصيغ والاشكال parallélisme des formes المطبّقة في عالم القانون يحق لوزير العدل وبعد موافقة مجلس القضاء الاعلى استرداد القرار القاضي بتعيين محقق عدلي وتعيين محقق عدلي جديد بدلاً منه.
ولا شيء يمنع ان يكون قرار الاسترداد والتعيين بناءً على طلب صاحب العلاقة او بناء على طلب أفرقاء الدعوى او بعضهم. وهذه العملية لا تشوبها شائبة طالما انها تتم بموافقة مجلس القضاء الاعلى ووفقاً لمرسوم الإحالة.
ولا نرى ما يسمح لوزير العدل بأن ينفّذ قرارا قضائيا بردّ المحقق العدلي، ليس فقط لأنه غير قانوني فحسب بل لأنه غير ملزم له لأنّ سلطته بتعيين محقق عدلي يستمدّها من قانون ومن مرسوم الإحالة الى المجلس العدلي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك