كتب نقولا ناصيف في "الأخبار":
لاستحقاق الانتخابات النيابية المقبلة أهمية مزدوجة الجانب:
يكمن أولها في أن الطبقة السياسية الحاكمة معنيّة به، كي تستعيد من خلال اقتراع الداخل شرعية دولية باتت تفتقر إليها، بعد إعطاب سمعتها وتحوّلها إلى أسوأ طبقة سياسية حاكمة عرفها لبنان، كثرت فيها الإهانات والشتائم واللعنات والاتهامات والتجريم حتى. من خلال التمسّك بإجراء انتخابات مضمونة النتائج، منبثقة من الحيثية التي للكتل الكبرى في قواعدها وطوائفها، يسع طرابيشها تأكيد شرعية وجودهم في السلطة بإرادة ناخبيهم.
أما ثانيها فيكمن بدوره في أنها تسبق الانتخابات الرئاسية المقرّرة تبعاً لمهلها الدستورية ما بين آب 2022 وتشرين الأول، بفاصل ستة أشهر فقط.
ليست المرّة الاولى تسبق الانتخابات النيابية العامة الموعد الدستوري لانتخابات رئاسة الجمهورية بأشهر قليلة. حدث ذلك في سني ما قبل اتفاق الطائف، بفارق ثلاثة أشهر بين انتخاب برلمان 1964 والانتخابات الرئاسية في السنة نفسها، وبفارق سنة بين انتخاب برلمان 1957 والانتخابات الرئاسية عام 1958، ثم بفارق سنتين ما بين انتخاب برلمان 1968 والانتخابات الرئاسية عام 1970. ثمّة سابقة لا تُدرج في السياق نفسه، حينما انتُخب برلمان 1951 وتسبّب خلال سنة في تصاعد المعارضة وحمل رئيس الجمهورية بشارة الخوري في السنة التالية على التنحي قبل أن يكمل ولايته الثانية.
في المرّات تلك، اقترن إجراء الانتخابات النيابية، وكانت في موعدها الدوري، بالتنافس على الغالبية النيابية المؤثرة على الاستحقاق التالي الوشيك، وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لذا رافق انتخابات 1957 و1964 تنافس محموم على الأكثرية النيابية لتجديد ولاية الرئيس الحالي حينذاك. اتُّهم الرئيس كميل شمعون بهذا المسعى وهو يمسك بالغالبية النيابية الجديدة، ورفض الرئيس فؤاد شهاب البقاء في الحكم رغم توافر غالبية تزيد عن ثلاثة أرباع نواب البرلمان المنتخب.
بعد اتفاق الطائف، تشاء الظروف والأحداث والمواعيد والإرادة السورية حتى عام 2005، أن يُنتخب البرلمان بعد انتخاب الرئيس أو تجديد ولايته، كما حصل أعوام 1992 و1996 و2000، من غير أن يؤثر أي من هذين الاستحقاقين على الآخر. وحدها دمشق كانت قادرة على التلاعب بالاستحقاقات والمواعيد وإنجازها بما يرضيها من دون منافس.
على نحو مشابه لتجربتَي 1957 و1964، تتحضّر الانتخابات النيابية للانتخابات الرئاسية التي ستليها. في وقت مضى ليس بعيداً، وسط تكهّنات عن احتمال عدم إجراء انتخابات نيابية عام 2022، طُرح سؤال وجيه: أي برلمان ينتخب رئيساً للجمهورية يخلف الرئيس ميشال عون، البرلمان المنتخَب عام 2018 ممدّداً له، أم برلمان 2022 المتوقّع؟
في ظلّ قانون الانتخاب نفسه النافذ منذ عام 2017، يعكس هذا السؤال مغزى الصراع في الانتخابات المقبلة على الأكثرية النيابية الجديدة التي سيسعها التأثير في انتخاب الرئيس الجديد ومواصفاته وموقعه في موازين قوى داخلية مهتزّة مشوّشة ومضطربة.
لأن الأمر كذلك، فإن حزب الله هو أكثر المعنيين بانتخابات آذار 2022 ليس بإجرائها فحسب، بل بالخروج منها منتصراً بما يتجاوز اكتفاءه بحصة الطائفة في مقاعدها الـ27 كلها، إلى الاحتفاظ بالغالبية النيابية الحالية التي يمسك بها.
من المؤكد أن من السذاجة الاعتقاد بأن الانتخابات النيابية ستُجرى لأنها استحقاق دستوري ملزم بمهله، ولأن الاقتراع يدخل في صلب تقاليد الديمقراطية اللبنانية. الصائب أن الأهمية التي يستمدّها الاستحقاق المقبل تكمن في ما يريده منها حزب الله، على رأس الغالبية النيابية التي تمثلها قوى 8 آذار وحليفها التيار الوطني الحر:
1 ـ لحزب الله وحلفائه 72 نائباً يشكلون الغالبية النيابية الحالية، في السنة ما قبل الأخيرة من ولاية برلمان 2018. ما يتوخّاه الاحتفاظ بها تمهيداً لما ينتظره في الأشهر المقبلة، من غير إغفال كثير من التكهّنات تتحدّث عن احتمال تغيير ـ وإن غامضاً تماماً الى الآن على الأقلّ ـ في بنية مجلس نواب 2022. يغالي المنادون بالتغيير في صفوف المجتمع المدني والهيئات المناوئة للطبقة السياسية الحاكمة في تقدير حجم هذا التغيير، كي يقولوا إنه سيزيد عن ربع المجلس الجديد، بينما بضعة تقديرات مغايرة لا تتوقّع، في أحسن الأحوال، أكثر من 10 نواب جدد. رقم متواضع غير طموح، وغير كافٍ. بيد أنه ثقيل الوطأة على قوى 8 آذار وحلفائها ورأس حربتها حزب الله.
رقم كهذا يعني تجريد هذا الفريق ـ على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية ـ من الأكثرية المطلقة، بأن يتدنّى نوابه من 72 نائباً إلى 62 نائباً، أو ربما أقلّ. مع أن نصاب الغالبية المطلقة (65 نائباً) لا يمكّن أصحابه من فرض رئيس جديد للجمهورية على الأقلية، إلا أنه يتيح لها التفاوض على الاستحقاق المقبل. يجعلها تقترح ولا تفرض. ذلك ما أتاح لحزب الله أن يفعل طوال سنتين ونصف سنة من الشغور الرئاسي، ما بين عامَي 2014 و2016. يملك دائماً مقدرة على التعطيل ولا يملك سلطة الفرض.
2 ـ لن يكون سهلاً على حزب الله القبول بمواصفات رئيس للجمهورية ليست مكمّلة لمواصفات عون. ما أعطاه إياه الرئيس الحالي على مرّ سني ولايته، لا سابق له في إطلاق يده في الداخل اللبناني، أضف دفاعه المستمرّ عنه وعن سلاحه. في ظلّ العهد الحالي، أضحى للحزب حجم سياسي ـ بالتأكيد أقلّ بكثير مما له في الإقليم ـ مكّنه من أن يصبح مرجعية الحل والربط، فوق الرؤساء والمؤسسات، فوق الدولة نفسها. ليس في وارد تكرار تجربة الرئيس ميشال سليمان المنتخب توافقياً عام 2008 بتأييد الحزب ورضى سوري، قبل أن ينقلب عليه ويعاديه في السنة ما قبل الأخيرة من ولايته. منح عون حليفه ما لا يسع هذا الأخير بعد الآن القبول بأقلّ منه، أو بما يقلص نفوذه. بفضل توقيع رئيس الجمهورية، اطمأن حزب الله إلى إدارة الحكم، معوِّلاً على ظهير صلب لا يلين. لم يكن انقضاء 13 شهراً في عمر فراغ حكومي أن يستمر وينتهي إلى حكومة على نحو أرضى الحليفين معاً، لو لم يستخدم عون سلاح توقيعه.
سبب كافٍ كي يقارب الحزب الانتخابات النيابية المقبلة بما لا يجعله يغامر بانتخابات رئاسة الجمهورية في المحطة التالية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك