كتب الدكتور جورج حرب المستشار السابق لوزير التربية والأستاذ المحاضر حالياً في كلية التربية:
انحسر كورونا، وهلّل الجميع لعودة الحياة التربوية إلى حالتها الطبيعية، على الأقل بما يتعلق بالعودة إلى الصفوف والنجاة من آفة "التعلم عن بعد - البعد عن التربية".
دخل تلامذة المدارس الخاصة إلى صفوفهم، في ظل إضراب يلف المدارس الرسميّة لمطالب محقة للمربيات والمربّين، كما أن مفاوضات شاقة يخوضها وزير التربية الدكتور عباس حلبي، مع مختلف القطاعات والنقابات التربوية، بالتوازي مع خطة تربوية خمسيّة، أعلنها منذ أيام، أعدّتها منظمة الأونيسكو منفردةً، اطلع عليها قبل إعلانها المدير العام الدكتور فادي يرق، ووزير التربية الدكتور الحلبي، مع الجزم ايضاً أن لا ملاحظات جديّة ولا تعديلات طرأت عليها، إذن لقد أعلنت كما هي.
حتى الساعة، لم تصل هذه الخطة إلى أي رئيس منطقة تربوية، وهم المولجون بمعرفة ظروف مدارسهم في محافظاتهم وأقضيتهم، ولا مختلف المديريات في الوزارة وضعت ملاحظاتها، ولا المركز التربوي ساهم بها، ولا الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية ولا الخاصة وصلها شيء وهي تتحمل مسؤولية تربية أكثر من ثمانين بالمئة من تلامذة لبنان، ولا مجلس الوزراء، ولا رئاسة المجلس النيابي ولا رئاسة الجمهورية، ولا أي مستشار تربوي في لبنان يعرف شيئاً عن خطة تربوية وضعتها لنا الأونيسكو، التي بدورها تألفت لجانها من دكاترة وتربويين لبنانيين وعرب وأجانب، لا تملك الدولة اللبنانية بطاقة تعريف لواحد منهم، ولا لخلفياته ولا لانتماءاته ولا كفاءاتهحتى، وتذهب الدولة بكل ثقة إلى تطبيق مقرراتهم من دون نقاش!
وجب على وزير التربية الآن، تشكيل لجان وعلى وجه السرعة تتألف من ممثلين عن المركز التربوي ومختلف المديريات لديه في وزارته، كما وممثلين عن الجامعة اللبنانية وبالأخص من دكاترة كلية التربية، بالإضافة إلى ممثلين عن منظمة الأونيسكو، وممثلين عن المدارس الخاصة ولجان الأهل، لدرس الخطة بمهلة لا تتجاوز الأيام العشرة، ورفع تقرير له، كي يبني موقفاً متيناً إذا ما قرّر اعتمادها، لا أن يعلن إطلاقها منذ أسبوع!
أما بما يختص بالتلامذة، فتجدر الإشارة إلى أن عودتهم اليوم إلى مقاعدهم ليست طبيعية، ولا روتينية، ولم تأتِ بسبب انتهاء العطلة الصيفية، بل عادوا كهاربين من آتون وباء اختطف العالم ومنه لبنان، وعادوا كناجين ممّن اختطفتهم الغربة أو غيّبهم الموت، أو اختربت بيوتهم من جرّاء انهيار هو الأعنف على لبنان منذ إبادة جبل لبنان سنة 1914. مع ذلك، نحن نصرّ على انتهاج أسلوب تربوي طبيعي، بكتب وفصول ونظريات ودرس وامتحانات وغيرها...
لا، هذا الأمر لا صلة له بالتربية التي تأتي دائماً كتلبية لسدّ حاجات مجتمع، وتصويب اعوجاج الإنسان في هذا المجتمع كما ولتضميد جراحه وتخفيف آلامه، مما يطرح أمامنا أسئلة من شانها أن تصوّب الأمور:
- ماذا يفعل التربويون اليوم لعلاج الجروح النفسية التي نجدها في كل يوم لدى التلامذة العائدين؟
- ماذا يفعلون لمعالجة انعدام الأمان لدى تلامذة بنان، بعد انهيارات بالجملة ضربت أسرهم، مالياً، وعاطفياً، وكلنا تابعنا ارتفاع نسبة العنف الأسري في لبنان أخيراً حتى بلغ 45 %.
- ماذا فعلنا كتربويين، لإعادة الأفق إلى مستقبل تلامذتنا؟ نعم الأفق، أي الحل المرتقب لمستقبل يخافون ضياعه بسبب تطورات دراماتيكية لبلدهم يلمسونها في كل يوم؟
- ماذا فعلنا لمن فقد أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو عزيزاً أو صديقاً، بسبب كورونا أم بسبب الفقر أم لأسباب أخرى، عبر الهجرة و الموت أو غيرهما من الأسباب؟
- من يشعر الان بالمربيات والمربين، الذين قاربت رواتب 80 % منهم أن تساوي 8 أو 10 صفائح بنزين لسياراتهم، في حين تؤكد دراسات نقاباتهم أن 90 % منهم يستهلك شهرياً بين 10 و12 صفيحة للوصول إلى مدرسته؟ من عمل على ترميم صورة المربية والمربي أمام مجتمعه، لقد نهش الفقر رونقهم، واختفت الأحاديث التربوية من غرف استراحاتهم، وحلّ محلها أنين متأرجح بين كراماتهم الغالية على قلوبهم وظروف تفرض عليهم أن يتابعوا كي يتابع الوطن بمن تبقّى.
لا أحد يشعر!
أهكذا هي التربية؟ أيجلس التلميذ على كرسيّه الخشبي وأمامه طاولة، ويقف المربون أمام لوح أخضر، ونفتح كتباً ونقرأ؟
لا، هذه ليست تربية، هذا ظلم للتلميذ كما للمربين والمربيات، كما لإدارات المدارس كلها، إذا أن التربية تفرض علينا البدء بترميم جروحنا. على الوزارة أن تداوي الإدارات وتفرج عن المساعدات لا بل ان تستنبط مساعدات قبل أن يطل الشتاء برأسه، وعلى الإدارات أن تداوي جروح المربيات والمربين، الذين على عاتقهم تقع مهمة ترميم جيل بأكمله من أجل لبنان.
فليعلن المركز التربوي عددا مطلوباً من الدروس لهذا العام وبالحد الأدنى، ولتعلن خطة لتعويض الكفايات الناقصة للسنين المنصرمة، على أن يبدأ العمل على كفايات الشهادات الأساسية والثانوية ما بعد كوانين، ولتحدد الوزارة امتحاناتها خلال آب، فتتوقف الدروس في منتصف تموز، ونكون قد سددنا الثغر التي خلفتها مأساتنا، خوفاً من أن نصدّر للجامعات جيلاً ضعيفاً سيعكس ضعفه على كل القطاعات خلال السنين الخمسين الآتية.
علاج التربية يبدأ الآن، وإذا ما تأجل فلن يكون هناك تربية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك