كتب رضا صوايا في "الاخبار":
دفع الانهيار الاقتصادي بعشرات الآلاف من الأطفال، لبنانيين ومقيمين، إلى سوق العمل. لا إحصاءات دقيقة حول الأعداد، لكن المؤكد أنها تزداد ارتفاعاً كل يوم مع تفاقم حدّة الأزمة الاقتصادية. يزيد الأمور سوءاً أن الحصار المفروض على الجهات الرسمية اللبنانية لا يستثني تلك التي تهتمّ بشؤون الأطفال، فيما الدعم «شغّال» لجمعيات غير أهل للثقة «تترزّق» على أكتاف هؤلاء.
نحو 34 ألفاً هو عدد الأطفال اللبنانيين العاملين، بحسب المسح الوطني الشامل للأطفال العاملين الذي أطلق عام 2018، ويعدّ «آخر دراسة رسميّة أجريت حول عمل الأطفال في لبنان، وانحصرت بالأطفال اللبنانيين العاملين واستثنت الأطفال العاملين من جنسيات أخرى. ومن المؤكّد أن هذه الأرقام زادت، إذ نشهد عودة كبيرة للأطفال إلى سوق العمل»، وفقاً لرئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل نزهة شليطا.
عام 2019، قدّر عدد الأطفال العاملين في لبنان، لبنانيين ومقيمين، بأكثر من 100 ألف غالبيتهم من النازحين السوريين بحسب مؤتمر «عمل الأطفال في لبنان بين القانون والواقع» الذي نظّمته يومها جمعية «نضال لأجل الإنسان»، وأكد أن ما لا يقل عن 7% من الأطفال اللبنانيين يعملون في قطاعات متعددة، في مخالفة للقوانين اللبنانية والاتفاقيات والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الطفل، وأبرزها اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حق الطفل «في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيراً أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضاراً بصحة الطفل أو بنموّه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي».
وكشفت دراسة أعدّتها لجنة الإغاثة الدوليّة IRC ونشرتها في شباط الماضي أن «عدد الأطفال اللبنانيين العاملين بلغ عام 2016 حوالى 62 ألف طفل، مقابل 37 ألف طفل سوري عامل، و4500 طفل فلسطيني عامل». اللافت في الدراسة إشارتها إلى تصاعد نسبة الأطفال الذين أصبحوا معيلين أساسيين لعائلاتهم بعد تشرين الأول 2019 وتسارع الانهيار الاقتصادي. وأوضحت أن «34% من الأطفال الذين شملهم استطلاع اللجنة عام 2020 ذكروا أن الذكر البالغ كان مصدر الدخل الأساسي في العائلة قبل تشرين الأول 2019، بينما أشار 40% من الأطفال إلى أنهم مصدر الدخل الرئيسي للعائلة. وبعد تشرين الأول 2019 ارتفعت نسبة الأطفال الذين أشاروا إلى أنهم مصدر الدخل الرئيسي في العائلة إلى 61%، مقابل إشارة 16% منهم فقط إلى أن الذكور البالغين هم مصدر الدخل الرئيسي. وارتفعت النسبة أكثر بعد تفشّي وباء كورونا. إذ ذكر 67% من الأطفال أنهم يعدّون مصدر الدخل الأساسي في العائلة». وفي هذا السياق، أشارت اليونيسف في تموز الماضي إلى أن «40% من الأطفال ينتمون إلى أسر لا يعمل فيها أحد»، وإلى أن «واحداً من كل عشرة أطفال في لبنان أُرسل إلى العمل».
وإذا كانت عمالة الأطفال تشمل كل من يعمل تحت سن الـ 18 عاماً، فإن تفاقم الأزمة وزيادة حدتها على أكثر من صعيد ساهما في تراجع سن الأطفال الذين يدخلون سوق العمل، إذ تشير نورما قازان، منسقة مشاريع حماية الطفل في منظمة plan international إلى «تراجع عمر الأطفال الذين يعملون في الزراعة. سابقاً، لم يكن الأولاد يعملون في هذا القطاع قبل سن الـ 11 أو الـ 12 سنة، فيما نسجّل حالياً عمل أطفال يبلغون من العمر بين 7 و8 سنوات. وأظهرت دراسة أجريناها مطلع عام 2019 في منطقة البقاع أن 60% من الأطفال العاملين يعملون في القطاع الزراعي، رغم أن المرسوم 8987 يمنع عمل الأولاد في الزراعة كون هذا القطاع واحداً من أسوأ قطاعات عمالة الأطفال».
يزيد من مأسوية المشهد غياب أي قدرة عملانية للدولة على مكافحة هذه الظاهرة. تسأل شليطا: «كيف لنا أن نساعد الأطفال العاملين، فيما لا قدرة لنا على الحضور إلى مراكز العمل إلا يوماً واحداً فقط في الأسبوع، ولا يتجاوز عدد المفتشين الـ 40، علماً بأن معظم الأطفال يعملون في قطاعات غير منظّمة، ما يصعّب التفتيش والمراقبة». وتلفت الى «أننا عوّضنا النقص من خلال لجنة تنسيق بيننا وبين الأمن العام للمساعدة في الكشف على عمل الأطفال وخصوصاً الأجانب في المناطق كافةً». لكن، رغم ذلك، فإن «إمكانياتنا المادية والبشرية لا تسمح لنا بمواكبة هذه الظاهرة التي هي فوق طاقتنا وإمكانياتنا. ومن دون أي تمويل موجّه وهادف تبقى قدرتنا على التحرك بسيطة جداً».
على أن اللافت، في ظل الضعف الحكومي، هو الغياب التام للمنظمات الدولية عن هذا الملف في ما يبدو كأنه «مقاطعة مقصودة وممنهجة» للدولة ومؤسساتها، يدفع ثمنها في نهاية المطاف الأطفال. وفقاً لشليطا، «كانت المنظمات الدولية تساعد بشكل كبير قبل الأزمة، وما كنا نلحّق مشاريع كانوا يتولّون تمويلها وإدارتها. لكنهم توقفوا مع ازدياد حدّة الأزمة، وفي وقت بتنا في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه البرامج».
وفي هذا السياق، تلفت مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسول وأطفال الشوارع في وزارة الشؤون الاجتماعية، سيما معاوية منذر، إلى «أننا لم نحصل على أي دعم من أي جهة في ما يختص بالأطفال اللاجئين والنازحين الذين يشكلون النسبة الأكبر من المتسوّلين. المنظمات والهيئات الدولية تدعم الجمعيات وليس الدولة، علماً بأن الكثير من هذه الجمعيات غير أهل للثقة، وتعمل بلا حسيب ولا رقيب ولا يُعرف كيف تصرف الأموال التي تصلها. إذ لا نرى شيئاً أكثر من بضع كراتين إعاشة»! وهو ما تؤكده شليطا، مشيرة إلى أن «بعض الجمعيات ترفع لها القبعة، وهي عضو في اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال. لكن هناك جمعيات تستغل الظرف ومقاطعة الحكومة لتفتح خطوطاً مع جهات مانحة ومنظمات دولية ووكالات أممية بهدف الحصول على تمويل».
وتعزز التساؤلات حول عمل الجمعيّات وما إذا كانت المساعدات تذهب فعلاً إلى المحتاجين والمعنيين، إشارة تقرير اليونيسف إلى أن «77% من الأطفال ينضوون في أسر لا تتلقى أي مساعدة اجتماعيّة»، فإلى أين تذهب المساعدات؟
تشير ريما صليبا، رئيسة جمعية «نضال لأجل الإنسان»، إلى أنه «لا يوجد أي شيء جدي على الأرض. الأولوية ليست للأطفال كمساعدات. العمل يقتصر على مساعدة العائلات كعائلات وليس الأطفال. الحلول المطروحة من مساعدات للعائلات وبطاقات تمويلية وغيرها لا تحل المشكلة. مهما كان المبلغ الذي سيوفر للعائلات سيكون قليلاً في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وبالتالي، في حال بطالة الوالدين أو الوالد، سيعود الولد إلى الشارع فور نضوب الأموال».
في المقابل، تؤكد قازان «أننا نلحظ زيادة في المساعدات وخاصة لدعم الأطفال اللبنانيين، فيما كان التركيز سابقاً منصبّاً على الأطفال السوريين. المساعدات اليوم تتوزع بنسبة 60% للبنانيين و40% للاجئين السوريين مقارنة بنسبة 30% للبنانيين و70% للسوريين في السابق. العائلات التي حصلت على مساعدات أعادت أولادها إلى المدرسة، ولكن في غياب أي دعم مستدام سيعود هؤلاء إلى العمل».
التسرّب المدرسي: الأولوية لـ«الأكل»
أشارت اليونيسف في تقرير في تموز الماضي إلى أن %15 من الأسر في لبنان توقفت عن تعليم أطفالها». أما على المستوى الرسمي المحلي فـ«لا توجد دراسات حديثة حول التسرب المدرسي» بحسب الباحث في التربية والفنون نعمه نعمه، لكن من المؤكد أن نسب التسرب المدرسي سترتفع بسبب الفقر ومشاكل النقل. أولويات العائلات خصوصاً الفقيرة منها هي توفير الأكل».
ويوضح أنه بحسب إحصاءات المركز التربوي، نزح نحو 73 ألف طالب من المدارس الخاصة بين عامي 2019 و2020. «انضم من أصل هذا العدد حوالى 50 أو 55 ألف طالب الى المدارس الرسمية، أي أن هناك حوالى 20 ألف تلميذ خرجوا من المدارس، وهذا رقم مخيف، علماً بأن الإحصاءات تشير إلى أن نحو 90 ألف طالب يدخلون إلى الصف الأول في كل مدارس لبنان، لكن لا يتخرج من البروفيه إلا حوالى 42 ألف طالب. إذا افترضنا أن بين 5 آلاف و10 آلاف منهم يذهبون إلى المدارس المهنيّة، ما الذي يحلّ بالبقية؟ أين يذهبون؟ لماذا يتركون التعليم؟»، لافتاً إلى أن «أكثر من يتركون هم ممن يصلون الى الصفوف السابع والثامن والتاسع كون التعليم إلزامياً في المرحلة الابتدائية، وصولاً إلى الصف الخامس».
يشدد نعمه على أن «فقر التعلم» أحد أبرز أسباب التسرب المدرسي، ونسبة «فقر التعلم في لبنان ربما أصبحت تلامس نسبة 70% بعد جائحة كورونا». والمقصود بفقر التعلم، على سبيل المثال، «أن يكون تلميذ في صف البروفيه، لكن مستواه فعلياً هو مستوى تلميذ في الصف السادس أو الخامس. ومع دخولنا العام الثالث من دون أي تعليم جدي، فإن الكثير من التلامذة سيجدون صعوبة في التأقلم مع المعارف المطلوبة لصفهم. وحين لا يستوعب التلميذ سيترك المدرسة».
التسوّل من سنّ الرضاعة
تنتشر ظاهرة التسوّل في مختلف المناطق، وخصوصاً في بيروت وجبل لبنان التي تشهد ارتفاعاً في عدد المتسوّلين من الأطفال. تشرح مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسوّل وأطفال الشوارع في وزارة الشؤون الاجتماعية، سيما معاوية منذر، أن «تسوّل الأطفال يبدأ في سنّ الرضاعة حتى ما دون سنّ 18 عاماً. آخر مرة أجرينا فيها إحصاء حول تسوّل الأطفال في لبنان كانت عام 2016، وتبيّن حينها أن العدد يقدر بحوالى 15 ألف طفل، 76% منهم من اللاجئين السوريين، فيما نسبة اللبنانيين منهم لم تتجاوز 15%. وبحسب المعلومات التي كانت متوفرة لدينا في السابق، فإن ظاهرة التسوّل كانت تنتشر خصوصاً في مناطق الأوزاعي والحمرا والمزرعة والنبعة والكولا والجناح».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك