كتب محمد وهبة في "الأخبار":
لطالما أُجبر المستهلك في لبنان على تسديد الثمن. ثمن القوانين الجائرة والقرارات الاستنسابية. ثمن الفوضى وسط ميل دائم للنظام نحو مصالح القوى النافذة. هي قوى تجارية - مصرفية منضوية في شبكات سياسية تحميها وتتبادل المنافع معها. وهذا المسار لم يتغيّر بعد الانهيار، بل ربما تعزّز أكثر ربطاً بمسائل مختلفة مثل الدعم، وأحدثها تعديل الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة. ففيما كانت الحكومة تتخبّط علناً بشأن اتخاذ قرار تعديل الدولار الجمركي، كان التجّار يستغلون هذه الزيادة غير المتحقّقة في الرسوم، لزيادة أسعار مبيع السلع والمنتجات. تكرّر الأمر أكثر من مرّة، وكان آخرها حين أقرّ مجلس النواب قانون موازنة 2022 قبل نهاية هذه السنة بثلاثة أشهر والذي احتسبت إيراداته على أساس دولار جمركي بقيمة 15 ألف ليرة من دون اتخاذ القرار فعلياً. هذا الأمر ترك مساحة زمنية واسعة في انتظار تطبيق القرار، ما أتاح للتجّار تخزين السلع وزيادة أسعارها بهدف التربّح غير المشروع من جيوب المستهلكين. فلنأخذ مثلاً تجارة السيارات؛ فقد زاد استيراد السيارات المستعملة والخاصة بنسبة 70% مقارنة مع عدد السيارات المستوردة قبل الأزمة في عام 2018، ثم رفعوا الأسعار. مستوردو المواد الغذائية فعلوها أيضاً وغيرهم...
يُعزى هذا السلوك إلى الفوضى التشريعية والتنفيذية أولاً، وإلى ضعف آليات الرقابة ثانياً؛ فعلى مدى السنوات الماضية، اعتادت الحكومة أن تستحصل من مجلس النواب على «حقّ التشريع في المجال الجمركي». السبب مذكور بوضوح في القانون 267 الصادر في 23 تشرين الأول 1993، الذي يشير في أسبابه الموجبة إلى أنه لم يصدر منذ عام 1990 قانون يمنح الحكومة سلطة التشريع في الحقل الجمركي، وأنه لكي تأتي هذه التشريعات الجمركية بالنتائج المتوخّاة لا بد من أن ترتدي طابعين اثنين: طابع السرعة في إصدارها ووضعها موضع التنفيذ، وطابع السرية خلال فترة دراستها وإعدادها حتى إصدارها، لأن «أي تسريب قد يعرقل إقرارها أو يؤدّي إلى عكس النتائج المتوخاة منها وإلى استغلالها لجني منافع مادية غير مشروعة».
أما الآن، فما حصل هو العكس تماماً. فقد كان موضوع الدولار الجمركي، على كل لسان قبل إقراره بأشهر. وجرى التعامل معه باعتباره أداة لجني الضرائب، وليس كأداة اقتصادية يمكنها أن تخفف من نزف العملات الأجنبية إلى الخارج. لا بل إن هذا التعديل استقطب نقاشاً علنياً بين مكوّنات السلطة، وتجاذبات سياسية واسعة حول الجهة التي تملك صلاحية إصداره. الكلّ كان يهرب منه قبل الانتخابات النيابية لأنه ليس قراراً شعبياً، ثم فجأة بعد الانتخابات النيابية، اتفقوا عليه جميعاً بطريقتهم الملتبسة، وضمّنوه في الموازنة. هكذا، منح التجّار أشهراً من الاستيراد والتخزين الذي جرى تمويله بالدولارات القليلة التي يملكها مصرف لبنان في احتياطاته أو التي تدفّقت من المغتربين ومن المؤسسات الدولية. كانت هذه أسوأ إدارة لمخزون وتدفقات العملة الأجنبية التي يحتاج إليها لبنان بشدّة من أجل النهوض.
المهم، بدأ العمل بالدولار الجمركي الجديد على وقع التهاب الأسعار. لم يكن ارتفاع سعر الدولار وحده سبب ارتفاع الأسعار، بل الاحتكارات التجارية فعلت فعلها أيضاً، فاغتنت هذه الفئة على حساب المستهلكين من دون أي رادع. والمشكلة أن الرادع ليس متوافراً قانونياً، وحتى لو توافر، فإنه لا إمكانية لتطبيقه بسبب انهيار القطاع العام وانخراطه على نطاق واسع مع الحلقات السياسية - التجارية.
مسألة غياب الرادع القانوني، تعود إلى عام 2007 حين قرّر وزير الاقتصاد والتجارة السابق سامي حداد، إلغاء أربعة قرارات إدارية تحدّد هوامش الأرباح التجارية بحجّة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وحرية والأسواق وتنافسيتها وسائر السرديات التي يردّدها تلامذة المدرسة النيوليبرالية. واستمرّ الإلغاء، إلى أن أتى وزير الاقتصاد محمد الصفدي وأعاد العمل بها. لكنّ التجّار اندفعوا نحو الطعن في هذه القرارات أمام مجلس شورى الدولة. والأخير أصدر قراراً يشير إلى أن تحديد هوامش الأرباح يتطلب إنشاء «لجنة خاصة» بحسب المادة 6 من المرسوم الاشتراعي 73 «تُشكّل من موظفين مختصّين ومن ذوي الخبرة والاختصاص في القطاع الخاص».
منذ يومها يعيش التجّار أفضل أيامهم. فليست هناك مرجعية قانونية واضحة تستند إليها وزارة الاقتصاد لمراقبتهم، ولا سيما مراقبة أسعار المواد الأساسية والغذائية. بل كانوا يشيعون بأنهم خاضعون للرقابة سنداً للمادة 7 من المرسوم 73. لكن تبيّن أن هذه المادة فضفاضة وتؤمّن لهم أرباحاً هائلة، إذ إنها تسمح لهم بهامش ربح يبلغ 100%، وهي تنصّ على الآتي: «لا يجوز في بيع السلع والمواد والحاصلات المنتجة محلياً أو المستوردة، والتي لم تُعين الحدود القصوى لأسعار بيعها، أو لنسب الأرباح في بيعها، أن يتجاوز سعر البيع في حدّه الأقصى ضعف سعر الكلفة».
وحتى الآن لم يتجرّأ أي وزير اقتصاد على إنشاء اللجنة المذكورة لتحديد هوامش الأرباح. بل إن وزارة الاقتصاد تستند إلى القانون 73 لتحرير المخالفات بحقّ التجّار، إنما بلا جدوى طالما أن القضاة يلغون هذه المخالفات. والأسوأ من ذلك، أن قيمة هذه المخالفات باتت متدنية بفعل الانهيار النقدي، وبالتالي لم تعد تشكّل رادعاً لهؤلاء، بل ربما هي تحفّز استمرار المخالفات. فإذا كانت قيمة المخالفة مليون ليرة مثلاً، فإن بعض التجّار لا يمانعون تلقّيهم مخالفة واحدة يومياً لأن الأرباح صارت تمنحهم مئات الملايين يومياً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك