كل نظام سياسي يخلق شروط بقائه. يأتي الخلق على صورة الخالق. ولدت الأنظمة العربية على قاعدة التجزئة، تجزئة الأمة العربية. وهي مارست سياسة التفتيت داخل كل منها؛ من أجل الحفاظ على السلطة. الاستبداد هو آلية التفتيت. يحاصر الاستبداد المجتمع، يضيِّق عليه الخناق، يشدد عليه الضغط. ينكسر المجتمع بسبب الضغط المتزايد. ثم نأتي بعد عقود عدة لنسأل: من هو المسؤول؟ يصعب التصديق أن المسؤول هو الشعب. هو الجهة المضغوطة. المسؤول هو الجهة الضاغطة، الجهة الحائزة على السلطة. في علاقة سوية بين السلطة والمجتمع، يصعب تصديق أن جهة خارجية، مهما كانت قوية أو خبيثة، تستطيع أن تتسلل إلى فك هذه العلاقة. ليس بمقدور أحد نفي نظرية المؤامرة، كل الدبلوماسية تقوم على الأسرار والمؤامرات. عرفنا من «الويكيليكس» ما كنا ندركه من قبل عن المؤامرات التي تحاك ضد شعبنا العربي، وضد كل شعوب العالم. المؤامرات تحيكها السلطات لا الشعوب. يتآمر الأفراد. الشعوب لا تتآمر. الشعوب لديها إرادة يجب أن تحترم. لا يمكن للحاكم أن يقول للشعب: أنت تآمرت عليّ. يتنافى هذا القول مع منطق الأمور. لدى الحاكم مشكلة مفهومية حين لا يرى التحولات لدى شعبه. ما نراه بين المحيط والخليج ثورة؛ الثورة عربية شاملة. حدثت وتحدث في جميع الأقطار العربية في وقتٍ واحد. انتقد الكثيرون هذه الثورة لأنها تخلو من القائد أو القادة، وتخلو من البرنامج أو الإيديولوجيا. هي ثورة الكرامة لدى العرب، هي ثورة أمة وحدتها الآلام والأوجاع، وإن لم توحدها دولها. عفوية الثورة وتلقائيتها يجب أن تنبئ القادة العرب بما كانوا لا يحبون أن يدركوه، وهو أن هؤلاء الحكام إضافات إلى شعوبهم، وليس أن شعوبهم إضافات إليهم. قال الشعب العربي إنه ليس مضافاً لشيء، هو الأساس؛ هو ما يتوجب على أهل السلطة إدراكه، والخضوع لإرادته. كي يخضع الحاكم لإرادة الشعب، عليه أن يعرف ما هي هذه الإرادة؛ من أجل أن يعرف، عليه أن يكون جدياً؛ من أجل أن يكون جدياً عليه أن يصغي باهتمام. منذ زمن طويل لم يعد الحاكم العربي يجيد فن الإصغاء. كان السماع لدى العرب أهم ميزاتهم. ألا يحتاج الشعر إلى من يصغي إليه؟ الثورة التي تحدث هي ثورة الوجدان العربي. الوجدان مصدر الشعر. السياسة فن الممكن. الاستبداد سعي إلى المستحيل. يستحيل على حاكم أن يستمر في السلطة دون علاقة سوية مع مجتمعه. هذه العلاقة السوية هي السياسة. السياسة حوار، هي تدفق الخطاب باتجاهين. عندما يتدفق الخطاب باتجاه واحد، تلغي السياسة نفسها. السياسة والتسوية صنوان. التسوية متعددة الأطراف. لا توجد التسوية عندما يعتبر طرف واحد أن الأمر له وحده. الأمر للحاكم عندما يكون الأمر للشعب. يمكن للحاكم أن يأمر الأفراد، لكن عليه ان يأتمر بأوامر المجتمع. كي يخضع الحاكم عليه أن يعرف مجتمعه. تتطلب التسوية ثقة بين أطراف التسوية. هي مفاوضات مستمرة بين السلطة والناس. كي تتحقق التسويات وترتفع إلى مستوى السياسة، يجدر أن تكون هناك ثقة بين الأطراف المتفاوضة. ثقة من الحاكم بان الشعب قابل لما هو أفضل، وثقة الحاكم بنفسه على أنه أقل فضلاً مما يجب أن يكون. لا يستطيع الحاكم أن يكون فائق الثقة بنفسه وأن يبقى حاكماً في الوقت نفسه. لا يلام الحاكم العربي إذا ذهل في مواجهة هذه الثورة. الجميع هنا وفي العالم مذهولون. الارتباك أصاب الجميع، بمن في ذلك القوى الإمبراطورية. المهم أن لا يتمسك الحاكم العربي بأساليبه القديمة في مواجهة أوضاع جديدة. ما يحدث أشبه بالزلزال. لا يجوز أن يكون التعاطي مع نتائج الزلزال وكأن الأمر عادي، وكأن الحياة اليومية ما زالت مساراتها الاعتيادية. الإمكانات الجديدة استحالات قديمة. الاستحالة تحوِّل ما كان مستحيلاً في الماضي إلى ممكن في الحاضر. ليس المطلوب من الحاكم العربي أن يكون ملكاً ـ فيلسوفاً ـ كما كان يطلب منه لدى المفكرين القدماء. المطلوب من الحاكم المعاصر أن لا يكون ملكاً وأن لا يكون فيلسوفاً، أن يكون إنساناً عادياً، أن ينزل من عليائه (ولو لبعض الوقت) كي يشعر مع الناس بآلامهم وأوجاعهم، وأن يرى ما يوحدهم لا ما يفرقهم، وأن يعمل معهم من أجل التوحد في مجتمع سوي لا في حرب أهلية تفني المجتمع (والدولة معاً). يدرك الحاكم أوضاع شعبه عندما يتوقف عن اتهامه وإدانته. لكن المسافة التي تفصله عن شعبه تجعله يحتقره ويكرهه. يحتقره لأنه يراه أدنى منه في سلم التطور البشري، ويكرهه لأنه يخاف منه، يراه دائم التربص به؛ لا يستطيع الاطمئنان إليه. يضطر دائماً إلى استخدام القيود ووسائل القمع كي يبقيه منضبطاً. مع اتساع المسافة بين الحاكم والمحكوم ينخفض الفهم المتبادل ولا يبقى إلا الاحتقار المتبادل والبغض. ينقطع خيط الاتصال عندما يبلغ التوتر أقصى حدوده ويحدث الزلزال.
يعرف الجمهور أنه ليس لديه متسع من الوقت كي يعيد ترتيب أموره، وكي ينتج مجتمعاً سوي العلاقات. الطبقة القديمة تتربص، والطبقة الجديدة من الانتهازيين والوصوليين تحاول أن تركب الموجه. جميع هؤلاء، مع من يؤيدهم من الخارج؛ يشكلون الثورة المضادة. في التاريخ القريب والسحيق نجحت ثورات كثيرة، ونجحت ثورات مضادة كثيرة. يعتمد الأمر على الظروف التاريخية التي تنتج كل ثورة. نرى الحكام العرب، الذين يواجهون الثورات، يتأرجحون بين الخضوع لجماعتهم للبقاء في السلطة، وبين الخضوع لمطالب الناس والخروج من السلطة. الذين منهم يريدون البقاء في السلطة يستخدمون مختلف الحجج التي تدين شعوبهم بالفوضى والانقسامات والتخلف. لا يعرفون، أن شعوبهم تعرف سلفاً الثمن الذي سوف تدفعه، وهي مستعدة لأكثر من ذلك. الكل يعرف منذ بداية الثورة العربية أن ثمن التغيير كبير للغاية، لكن القبول بالأوضاع الراهنة أصبح غير ممكن. كل ذلك ليس بسبب الحكام. فالحكام ما عادوا يعنون الكثير في موازين القوى، بل بسبب الأوضاع الدولية والنفط وتكالب الجميع على النفط. ربما تعثرت الثورة العربية هنا أو هناك، لكنها لن تتراجع. سوف يلام الحكام الذين يرفضون الرحيل. هؤلاء، ومن معهم، يتوجب عليهم الاختيار بين رحيل سلمي، بتسليم السلطة، أو الرحيل بطريقة أخرى مخيفة. صار الشعب العربي لا يخاف؛ كسر حاجز الخوف، ولا يخاف الخوف. في وضع من هذا النوع ليس أمام الحكام العرب إلا اختيار طريقة الخروج، إذا أرادوا أن يتركوا أثراً حسناً. المواطن العربي، وقد أصبح مواطناً لأنه صار شريكاً في تقرير مصير بلده، ليس مسؤولاً عن اندلاع الثورة. ساقته الأقدار إلى ذلك. من حقه أن يفرح بالثورة، وأن يفرح بانتقاله من دور الرعية إلى دور المواطنة. المواطن العربي أداة لإرادة جمعية، في الصراع بين الإرادة الشعبية الكلية وبين إرادة السلطات الاستبدادية. ما على المواطن إلا الالتزام بإرادة الناس ليكون في عداد الجمهور الذي يشكل الأغلبية الكبرى. أغلبية الجمهور الذي يمر في مطهر الثورة، والذي تطهره الثورة من جميع أوساخ الانقسامات التي يهددونه بها. كما تبدو الأمور، سوف ينتصر مطهر الثورة على قيود الاستبداد وسجونه. هو الشعب لا يعرف المستحيل. الحكام العرب الذين نتحدث عنهم هم المنظومة العربية. الثورة التي نتحدث عنها هي ثورة الشعب العربي. ما يجب السعي إليه هو أن تبقى الثورة العربية سلمية: أولها كلام وآخرها كلام. يمارس الشعب حقه في الحوار، الحوار المتبادل، بين الناس والناس، وبين الناس والأنظمة. يمارس الناس السياسة بالحوار. وهو ما كانوا محرومين منه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك