أغرب ما في الجدل البيزنطي حول تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أنه ما زال يدور حول موقف دمشق، وينكر بوضوح طبيعة ما جرى في سوريا خلال الاسبوعين الماضيين، وما يمثله من انتقال هائل عبر الزمن اللبناني والسوري، لا يحتمل العودة الى الوراء، أو الى حيث توقفت الأمور عند بدء احتجاجات درعا في منتصف الشهر الماضي.
قبل ست سنوات، وعندما كانت سوريا تستقبل جنودها العائدين من لبنان بعد مهمة ردع عابرة طالت نحو 35 عاما، كان أحد الباحثين الغربيين في بيروت يحاول أن يستطلع أثر ذلك الحدث التاريخي على العلاقات اللبنانية السورية، وان يستكشف صدى ذلك التحول الاستراتيجي على الخريطة السياسية في المشرق العربي كله. وقد تسنى له يومها أن يلتقي حلفاء دمشق وخصومها معا، وخلص الى استنتاج مدو لم يكتبه، ولعله دوّنه في مذكراته، وهو أن «يخشى أن اللبنانيين يمكن أن يحتاجوا الى 35 عاما إضافيا لكي يلاحظوا أن سوريا خرجت من لبنان، وحانت فرصتهم لكي يعيدوا بناء بلدهم وحدهم، من دون الحاجة للذهاب الى العاصمة السورية لطلب مساعدة غير متاحة بعد اليوم في معالجة مشكلاتهم المحلية».
مرت ست سنوات، وما زالت الأنظار اللبنانية كلها تتجه الى دمشق، سواء من أجل توسل تلك المساعدة، أو من أجل تقويض ذلك المسعى. ومن المفارقات العجيبة أن فريقي الازمة الداخلية في لبنان يختلفان على كل شيء تقريبا لكنهما يتفقان على أمر واحد، يعبران عنه بأشكال مختلفة، هو أن سوريا لا تزال محور الحياة السياسية اللبنانية، وهدفها الوحيد.. من دون أن يعني ذلك ابدا ان لدى أحدهما تصوراً جدياً حول ضرورة تنظيم العلاقات الثنائية بين البلدين والشعبين الشقيقين، أو حول أسس تطوير العلاقات الثنائية بما يخدم تطور النظامين المهددين بالانقراض.
سوريا كانت وستبقى الأخ الأكبر بالجغرافيا والسكان والأمن. لكنها منذ خروجها من لبنان في نيسان العام 2005 لم تعد كذلك لا بالسياسة ولا بالفكرة الوطنية أو طبعا القومية. وليس صدفة أن خطابها الإصلاحي الرسمي الاول في عهد رئيسها الحالي بشار الاسد يرتبط بذلك التاريخ بالتحديد. وقد تجدد هذا الوعد السوري في خطاب الاسبوع الماضي أمام مجلس الشعب، وأمام الجمهور السوري خاصة الذي ارتبطت في ذهنه فكرة أن العودة من لبنان تقتضي التركيز على إصــلاح داخلي طال انتظاره.. ولم يبدأ حتى الآن.
ادعاء الالتصاق بدمشق أو الاصطدام معها، لم يعد صالحا، أو هو على الاقل يفقد صلاحيته يوما بعد يوم. وهو لا ينم إلا عن خلل عميق في التكوين اللبناني، وعن حرص دفين على مواصلة الحرب الاهلية اللبنانية. لكنه ايضا يعبر عن سوء فهم وسوء تقدير شديد لما يجري في سوريا اليوم، يورط لبنان واللبنانيين جميعا في صراع داخلي لا شأن لأحد به، ولا يمكن أي جهة خارجية أن تؤثر به.. والاهم من ذلك انه يقود الى مغالطات خطرة حول المحصلة النهائية لذلك الصراع.
أهم ما في الاحتجاجات السورية انها إشارة حاسمة الى ان سوريا خرجت من لبنان.. يبقى أن يخرج لبنان من سوريا، أو أن يخضع لعلاج نفسي مكثف.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك