لم تعد ثورة، أو حرباً أهلية. هي أقرب ما تكون الى أزمة عالمية، تماما كما توقع العقيد معمر القذافي منذ اللحظة الاولى. وهو يثبت الآن انه كان على حق، بناء على تقديرات وحسابات في منتهى الدقة.. تدحض الاعتقاد السائد بأنه رجل معتوه أو أخرق، وبأنه زعيم يحكم ليبيا منذ 42 عاما بالاستبداد والبطش وحدهما.
المؤتمرات العربية والدولية التي تنعقد هذه الايام في الدوحة والقاهرة ولندن وروما وباريس وبروكسل، لا توحي بأن القذافي في وضع صعب، بل هي تؤكد فقط ان جميع خصومه في مأزق. صحيح انه فقد شرعيته في الداخل والخارج، وباتت يداه ملطختين بالدماء التي لا تسمح له بالعودة الى النظام العربي أو المجتمع الدولي، لكنها لا تزال تتيح له ان يبقى في السلطة لسنوات عديدة مقبلة، استنادا الى جيش برهن على انه واحد من أقوى الجيوش العربية ومن أكثرها قدرة على مقارعة جيوش أوروبية قوية، وربما هزيمتها اذا ما اضطر يوما ما الى خوض قتال بري، واعتمادا على ولاءات سياسية وقبلية لم تتزعزع، سواء نتيجة الخوف أو العجز.
القذافي فضيحة لا شك فيها، على مختلف المستويات الإنسانية والأخلاقية والسياسية. العالم كله يود التخلص منها، بدءا من غالبية شعبه الذي ثار ضده وحمل السلاح وما زال يقاتل بضراوة، على جبهات عديدة، لا سيما منها مدينة مصراتة التي لا تزال صامدة بعد ثلاثة أشهر على بدء الثورة، برغم اختلال موازين القوى العسكرية، بين جيشه ومعارضيه الذين لم يكسبهم الغطاء الجوي الاوروبي الكثير من الدعم، لكنه أتاح لهم حماية مدينتهم الرئيسية بنغازي وبعض قواعدهم الخلفية السكنية الاخرى.. من دون ان يضع النظام على حافة السقوط.
الإجماع العالمي على ضرورة إطاحة القذافي لا لبس فيه، وهو يشمل العرب والمسلمين بقدر ما يشمل الغرب والشرق معا. لكنه إجماع لا يستند الى معطيات، بل الى تمنيات يجري التعبير عنها في تلك المؤتمرات المتلاحقة التي يسخر منها العقيد وأبناؤه، ويتعاملون معها باعتبارها مؤامرات ستسقط الواحدة تلو الاخرى وتظل السلطة الليبية في يد صاحبها أو ورثته.. الذين يبدون اليوم واثقين من أن جيوش أوروبا كلها ليست من الكفاءة والقدرة والرغبة على تحطيم الجيش الليبي الذي أنفقت عليه المليارات من أجل هذه المعركة بالذات، والذي يتمتع بعمق بشري افريقي من المرتزقة لا ينقطع.
لأسبابهم الخاصة والمعروفة هرب الاميركيون من تلك الحرب، وبقيت أوروبا وحدها في مواجهة العقيد وأبنائه وجيشه، الذي يكرر كل يوم أنه لم يستخدم قوته الكاملة، وانه ما زال يختبر القدرات والكفاءات العسكرية الفرنسية والبريطانية والايطالية.. ويحتفظ بالكثير من الاسلحة والخيارات الاستراتيجية التي لن يستخدمها إلا في اللحظات الاخيرة، اذا لم يقتنع المجتمع العربي والدولي بضرورة التفاهم معه يوما ما، بدلا من انتظار معجزة تؤدي الى إطاحته هو وابناؤه من السلطة.
العقيد ليس مجنوناً، والعالم ليس عاقلاً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك