فتحت سوريا باب الإصلاح. أقرّت حزمة إجراءات في اتجاه الحريات والمشاركة والتعددية الحزبية والسياسية ومكافحة الفساد. هذا التحوّل تحت عنوان الديموقراطية بحد ذاته بداية لمسار طويل ومعقد. مدى عمق هذا التحوّل يتوقف على حيوية المجتمع السوري وحراكه وقدرته على تقديم الصيغ الفاعلة المنسجمة مع طبيعة المجتمع وطموحاته، وطبعاً على مدى مقاومة قوى التقليد في المجتمع والدولة. هذا في الشأن السوري الداخلي الذي يهمنا كأي إنجاز عربي أو تقدم أو قوة أو مناعة لأي شعب عربي آخر. لكن ما يهمنا أكثر نحن اللبنانيين هو التأثير المباشر لهذا المسار على لبنان.
لا نغالي إذا قلنا إن تاريخ لبنان كان محكوماً بهذه العلاقة، وإن العقود الأربعة الماضية جعلته تحت سقف السياسة السورية سلباً وإيجاباً. المستجد الآن أن سوريا طوت مرحلة التدخل التي جعلت منها طرفاً حاكماً وانتقلت إلى مرحلة من التفاعل والتأثير عن بُعد. هذا هو مغزى أن تشكو سوريا من وسائل وأشكال مختلفة للتدخل من بعض الفئات اللبنانية ضدها. بقطع النظر عن حجم التدخل اللبناني وأهميته، فهو مظهر لتداعيات إقليمية أكبر يندرج في خانة الضغوط السلبية على سياسة سوريا، ويتوسل اللعب والعبث بالأمن والاستقرار عن طريق شبكات تخريبية وليس عن طريق مساندة ودعم تيارات سياسية لها شرعيتها وحضورها وتمثيلها الشعبي. إذا كان هذا هو المعنى «المؤامراتي» أو «الفتنوي» فهو قائم يشتد ويضعف تبعاً لأهداف الخارج البعيد، وهو الوجه السلبي المحض في علاقات البلدين.
ولا نحتاج إلى تبرير من «اتفاق الطائف» أو من «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» كي ندين هذا العمل، بل نعتقد أنه خيار لفئة سياسية أضرّت وتضر بلبنان إلى حد المقامرة بوحدته واستقراره ومصالحه الوطنية. هذه الفئة انخرطت في المشروع السياسي الانقلابي الواسع غربياً وعربياً على لبنان وسوريا معاً وهي المسؤولة عن كل التداعيات الخطيرة التي يعيشها لبنان منذ ست سنوات. لم يكن هذا المشروع ديموقراطياً لا في لبنان ولا في سوريا، وهو لم يستخدم المعطى الديموقراطي اللبناني على شكل معارضة سياسية وطنية ديموقراطية، بل اتكأ على الهجمة الأميركية وبعدها الحرب الإسرائيلية لإحداث تغيير في السلطة في لبنان وسوريا لا مكان فيها لمصالح الشعبين ولا لطموحاتهما وتطلعاتهما. لسنا نحتاج إلى المزيد عن مرحلة القرار 1559 لأن المسار هو نفسه الذي تورّط به السابقون واللاحقون، وقد ساهموا في إحباط أي مشروع سلمي وطني لتصحيح العلاقة بين البلدين ولتطوير نظامي البلدين بأفق الاستجابة لمطالب شعبية محقة. لا نؤرخ الآن، بل نضيء على الواقع الراهن الذي يؤكد أن اللعب بتناقضات المجتمع الدينية والمذهبية ليس نهجاً ديموقراطياً. وإدارة السياسة من غرف سوداء ومن أحضان المشروع الغربي والرهان المباشر أو غير المباشر على «الردع الإسرائيلي»، ليسا عملاً وطنياً. كما أن تمويه هذا المشروع خلف لافتة «المجتمع الدولي» وما يصدر عنه ليس أبداً سعياً سيادياً واستقلالياً. لسنا هنا نتحدث بالمثاليات والأخلاقيات التي يزعم معظم أهل السياسة تعارضها في تبرير الوسائل بالغايات.
إن الغايات التي أرادها فريق سياسي كانت ولا تزال ليست مجرّد غلبة سياسية أو تغيير توازن، بل هي تورّط في خيارات تأخذ المنطقة كلها إلى صراعات التفكيك والفوضى الكيانية. غير أن إدانة هذا المشروع لا تلغي الضرورة الملحة لنقد ونقض الوجه الآخر من سياسات وممارسات ما زالت تقاوم بعدة قديمة، وتغرق في تفاصيل مواجهة محلية وإقليمية لا تشق طريقاً واضحاً إلى الخروج من مأزق سياسي تعيشه المنطقة بين حاجاتها الداخلية ومطامع الخارج بها. هذا هو معنى أن نواجه «الفتنة» وننزلق إليها بتغليب حاجات «البنية المذهبية» وأدوات هذه البنية على الخطاب السياسي والممارسة السياسية. بل حين نغلق مسار الإصلاح في لبنان مثلاً على فرضية الخروج من الطائفية بالطائفية، ومن الوصاية بوصاية أخرى، ومن الهيمنة بهيمنة، ومن طائفية سياسية بعينها إلى طائفيات سياسية، ومن المقاومة الوطنية إلى «مقاومة المقاومة»، ومن طلب الشراكة إلى لعبة الإقصاء، ومن خطاب الدولة القوية إلى «الدولة المتقاسمة حصصاً»، والمتنازعة بين مشاريع فئوية لا يمكن لها أن تسود مهما امتلكت من «قوة».
هذه لحظة لصحوة وطنية بعد صحوة عربية شاملة يدخل العرب فيها كشعوب مسرح التاريخ والفعل السياسي. هذه لحظة مناسبة حين تنعطف سوريا وتنفتح على الإصلاح كضرورة للوحدة والتقدم والاستقرار والقوة كي نتقدم معاً في الاتجاه الديموقراطي كما في الاتجاه الوطني ونتصارح ونتصالح على ما بعد سبق من تاريخ عكر، ولنواجه الظلاميات والتطرف والعصبويات، ولنواجه أولاً وأساساً قوى «حداثوية الوسائل» ماضوية التفكير ومشوّهة الأهداف بالأنانية وبالتبعية وبروح الانهزام أمام قوة الغرب وأهدافه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك