«إن الشعب الماروني، سواء انحدر من العرب أم من السوريين، أو اعتُبر مستوطنة أوروبية ألقيت مصادفة وسط قبائل الصحراء (...) تبقى سيماؤه عربية»؟
الفونس دو لا مارتين
شاعر فرنسي
في «رحلة في الشرق» 13 نيسان 1833)
تنفّس المسيحيون الصعداء، ومعهم عدد كبير من اللبنانيين، بتحقق اللقاء الماروني في بكركي أول من أمس الثلاثاء. إلا أن اللقاء بدا، على أهميته في ضوء الصعوبات والعراقيل التي اعترضت حصوله قبل الآن، دون المرتجى من الراعي الجديد للموارنة.
ذلك ان الصرح الذي حل فيه حديثاً بصفته البطريركية، يشكو الكثير من التصدع على الصعيد المسيحي أولاً، ثم على الصعيد المسيحي ـ الإسلامي والوطني.
وكان الأولى به ربما البدء بترميم ما أورثه إياه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وترتيب البيت الداخلي قبل دعوة الزعماء الأربعة إلى لقاء مصافحة وخبز وملح من معجن البطريركية.
وكان لافتاً كلام نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان عشية لقاء بكركي الذي توجه به إلى الزعماء الموارنة الأربعة قائلاً: «تواصلوا وتعاونوا واهتموا بلبنان. فنحن ضد العزل والتهميش، ومع المواطن الصالح المخلص لوطنه وأمته. فكفانا خسائر ومطبّات مُهلكة». داعياً إلى «ان نصحح المسيرة بتصحيح أقوالنا وأعمالنا».
والمفتي قبلان يعني ما يقول، وهو المكتوي من أقوال بكركي وأعمالها، وخصوصاً منذ حرب تموز و«النداء السابع» للمطارنة الموارنة الذي صدر في أيلول 2006، وتجاهل عمداً موضوع التفرد بالقرار في التعامل مع إسرائيل من جانب فريق من المسيحيين، محملاً الفريق الشيعي المتمثل في «حزب الله» تبعة التفرد بالقرار السياسي في خطف الجنديين الإسرائيليين الاثنين آنذاك، وما أعقبه من حرب عدوانية مدمّرة على لبنان سقط جراءها أكثر من 1200 شهيد.
واعتبر النداء ان المقاومة قد تحولت ميليشيا مسلحة خارجة على القانون بعد تحرير الجنوب في 25 أيار 2000.
وهذه الدعوة إلى «تصحيح المسيرة» كانت كافية في ذاتها للفت نظر البطريرك الجديد إلى ضرورة تحويل اللقاء الماروني فرصة لإعلان موقف يضع حداً لمجموعة «خسائر ومطبات مهلكة»، الراعي الجديد أدرى بها من سواه نظراً إلى انه كان أحد أركان صنع القرار في مجلس المطارنة الذي صاغ معظم المواقف التي لاقى بعضها اعتراضاً واستهجاناً نظراً إلى ابتعادها عن تقاليد بكركي، والقيم المسيحية.
وهناك من كان يعوّل على موقف لبكركي، من ثلاث قضايا مهمة كان من شأنها ان تجعل لقاء القمة الماروني محطة مفصـــلية، بل منعطفا تاريخيا في تصحيح المسار.
والقضايا الثلاث هي:
1 ـ العلاقات مع سوريا في ظل الاضطرابات الحاصلة فيها.
2 ـ الإشكالات الدستورية المحيطة بموضوع تأليف الحكومة، والدور المسيحي في التأليف، فضلاً عن «الحقوق» المسيحية في الحكومة العتيدة.
3 ـ الأزمة الكيانية التي يطرحها التنفيذ المنقوص لاتفاق الطائف. وهذه قضايا كان يؤمل ان تلقى اهتماماً تُستوحى فيه ثوابت وطنية يجمع عليها القادة الموارنة لأنها لم تشكل يوماً مسائل خلافية في ما بينـــهم، بل هي تشــكل قواسم مشتركة في ما بينهم وبين بقية الأفرقاء اللبــنانيين.
في الموضوع السوري، كان يجب وضع العقد التاريخية والسياسية جانباً، والنظر إلى المصلحة اللبنانية ـ السورية المشتركة التي تقول بوجوب دعم الشعب السوري في مطالبه المحقة في الإصلاح من طريق التحرك السلمي، وصولاً إلى نظام ديموقراطي مدني، بعيد عن التوجهات الأصولية والطائفية والمذهبية، مما يشكل عامل استقرار لسوريا ولبنان معاً. ذلك ان قيام حكم سلفي أصولي في سوريا من شأنه تهديد الاستقرار في لبنان، عبر مطالبة فئات سلفية وأصولية فيه بإقامة نظام مماثل للنظام السوري. الأمر الذي يهدد التعايش والتعددية التي يحرص عليها المسيحيون.
لذلك فان ثمة مصلحة مسيحية في قيام حكم مدني أو علماني في سوريا، وهذا ما ينشده الشعب السوري بأكثريته الساحقة بقيادة الرئيس بشار الأسد. على ان تبقى الخلافات مع سوريا حول ملف المعتقلين و«الأسرى» في السجون السورية من اختصاص الحكومتين في البلدين.
ومن شأن هذا الموقف ان يفتح الباب أمام زيارة للبطريرك الراعي إلى دمشق، وربما استتبع ذلك مشروع مصالحة بين سوريا والمسيحيين المختلفين معها منذ 1975، وتكريس علاقات صحية مع عهد جديد في دمشق.
أما في الإشكالات المتصلة بتأليف الحكومة، فلا بد من موقف موحّد من موضوع المشاركة المسيحية في القرار السياسي داخل مجلس الوزراء والذي أقره اتفاق الطائف بعد نقل صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وامتيازاته إلى مجلس الوزراء، مجتمعاً.
وهذا الموقف ينبغي ان يكون مبدئياً، لجهة الاعتبار ان تكليف شخصية سنية تأليف الحكومة لا يعني «تطويب» هذا الموقع على اسم الطائفة السنية على النحو الذي أشار إليه الرئيس حسين الحسيني في الندوة التي نظمها «المركز المدني للمبادرة الوطنية» الاثنين الماضي وبدا كأنه تزامن مع لقاء بكركي الذي عقد في اليوم التالي. فقد رفض الرئيس الحسيني الذي أشرف على صوغ اتفاق الطائف عام 1989، اعتبار مجلس الوزراء «عقاراً سنياً»، مع رفضه أيضاً اعتبار رئاسة الجمهورية «عقاراً مارونياً»، ورئاسة مجلس النواب «عقاراً شيعياً». وهذا ما ينبغي ان تتنبه له بكركي، بحيث لا تبقى مطالبة العماد ميشال عون وتكتله بما يعتبرانه «حقوقاً مسيحية»، مسألة تخص التيار الوطني الحر، وحده، بل يجب ان تكون موضع بحث من بكركي وبقية الافرقاء المسيحيين بحيث توضع في إطارها الدستوري الذي أقره اتفاق الطائف لجهة المشاركة في القرار السياسي.
وسبق للرئيس نجيب ميقاتي ان أكد في الندوة ان موقع رئاسة مجلس الوزراء هو «للطائفة السنية في التركيبة السياسية الحالية. وأنا أريد أن أحافظ على هذا المركز وصلاحياته، لأنني مؤتمن عليها وعلى الأصول الدستورية. والأمانة أصعب من الملكية». علماً أن نقل صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، لم «يملّك» رئيس المجلس هذه الصلاحيات، وان مراسيم تطبيقية كان يفترض ان تصدر، ولم تصدر بعد، تحدد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، وتعين حدود هذه الصلاحيات وطريقة عمل المجلس. وان انفراد رئيس مجلس الوزراء في تحديد صلاحياته لا يجوز ان يستمر.
والمخرج من «الأزمة الكيانية»، يجب ان تعتبره بكركي بنداً أول في برنامج البطريرك الجديد والذي يعوض «الخدعة» التي قيل ان الفريق المسيحي تعرض لها بتنازله عن صلاحيات الرئيس في مقابل قيام نظام جديد لجمهورية جديدة ودولة جديدة من طريق استكمال القوانين التطبيقية للطائف وخصوصاً قانون الانتخاب الذي يحقق التمثيل النسبي العادل، وقانون الأحزاب، واللامركزية الإدارية، وتنظيم رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء، وقانون الدفاع والسياسة الدفاعية، إضافة إلى الهيئة الوطنية للبحث في إلغاء الطائفية السياسية التي طالب بها الرئيس ميشال سليمان مراراً منذ تضمينها خطاب القسم والتي هي «ليست بالتأكيد إلغاء الطوائف، ولكن هي ان يكون الاختيار من الطوائف على أساس وطني، وصولاً إلى الدولة المدنية ودولة المواطنة».
هذا ما كان مرتقباً من قمة بكركي المارونية. ان تصحح إبرة البوصلة وتستجيب لتطلعات جميع اللبنانيين، ولا سيما الشباب منهم الذين يسألون الراعي: هل هناك أمل في قيامة الوطن كما قام السيد المسيح من بين الأموات؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك