عادت مجدل عنجر إلى الواجهة، من بوابة خطف المواطنين الأستونيين السبعة، كما من تداعيات مقتل المؤهل في فرع المعلومات راشد صبري الذي قضى برصاص درويش خنجر وعدد من رفاقه، في أول عملية قتل يكون الجاني والضحية فيها من أبناء البلدة
هو القلق والحذر وحالة من الانتظار، تعيشها بلدة مجدل عنجر. وأمس، خرج إلى الإعلام شريط فيديو للمخطوفين الأستونيين، ما زاد حالة الصدمة في القرية، التي دفنت المؤهل في فرع المعلومات راشد صبري، ولم تدفن بعد ابنها الآخر درويش خنجر.
حتى وقت قريب، كانت المجدل تعيش في حالة من الثقة بأن أياً من أبنائها لن يقتل آخر لأسباب سياسية أو أمنية، كما يفضل الأمنيون القول. وكانت المجدل ترى، في وضع الظلم الدائم الذي تعيشه، أنّ بعض شبّانها يدافعون عن أنفسهم بعد طول هروب، أو طفر، وعندما يحاصَرون يقتلون من يحاصرهم. لكن وقائع مقتل راشد صبري تفيد بأن دورية لدرويش خنجر (وهو على رأسها) ترصّدته وقتلته، وأن درويش قتل برصاصة واحدة من طريق الخطأ، وفي تلك اللحظة كُسر العرف في البلدة الحدودية، لتعود البلدة إلى الواجهة منذ العاشر من نيسان الحالي يوم عملية صبري وخنجر.
قبل هذه العملية يتحدث بعض أبناء البلدة عن توصل فرع المعلومات خاصة، وأجهزة الاستخبارات عامة، إلى تفاصيل كثيرة عن عملية خطف الأستونيين السبعة. ويضيف هؤلاء أن راشد صبري هو من كان يحصد المعلومات عن البلدة، وهو أفضل من عمل على ملف المجموعات الجهادية في المنطقة. والبعض يقول إن شبكة معلوماته طاولت أبعد من البقاع الأوسط، وأنه استطاع جمع كمية من المعطيات أدت إلى إزعاج وائل عباس، المتهم الأول بخطف الأستونيين (في 23 آذار قرب مدينة زحلة)، وهو ما حمل عباس على الإشارة إلى خنجر في قضية اغتيال صبري.
الأستونيّون وعباس
أغلب الرأي لدى من تلتقيهم من المجدل أن عباس لا يزال يحتفظ بالأستونيين، وأنه في ارتباك من أمره، وأنه أوقع البلدة في حالة تشبه حالته، لكنهم في المقابل يتحدثون عن الظلم المتمادي للبلدة، ظلم لم يبدأ بعد اختطاف الأستونيين السبعة، ولا قبله بأيام، ولا لحظة تدخل مجدل عنجر في النزاع الأهلي في السابع من أيار 2008 مغلقة طريق المصنع الحدودية، ولا حتى عندما اعتقل فرع المعلومات بقيادة وزير الداخلية آنذاك إلياس المر إسماعيل الخطيب وقتله تحت التعذيب (عام 2004)، بل هو الظلم متمادٍ يعود إلى دور أدته المجدل في ثورة 1958 حين أقفلت أيضاً الطريق الحدودية. لكن النقطة الأبرز في ذاكرة شباب المجدل هي الظلم الذي لحق بشاب بات في نظرهم بطلاً محلياً، هو إسماعيل الخطيب، وكل هواتفهم المحمولة فيها صوره بعد مقتله وبعض اللقطات له وهو حي ويتبادلونها في ما بينهم.
ويستمر شعور الظلم بالنمو في البلدة، وفي نفوس الشبان، مع استمرار توقيف بضع عشرات من شباب القرية على خلفيات أعمال مخلّة بالأمن أو اتهامات أخرى، وبعضهم دون محاكمات، ومن أبرزهم ربما خالد يوسف (الملقب بخالد ملكي)، وتتعالى المطالبات بتحريك ملف هؤلاء الشبان بطريقة ما.
إلى جانب اتهامات تتصاعد في الإعلام عن دور لسوريا في عملية خطف السبعة، ومعلومات تتحدث عن نقلهم إلى سوريا وتسليمهم إلى مجموعة جهادية تابعة لتنظيم القاعدة، يتحدث من يتابعون الملف عن إرادة لدى بعض الجهات التي تدور في فلك السلفية لتحريك ملف جميع الموقوفين، علماً بأن بعض حالات التوقيف في سجن رومية تشهد على الاعتباطية والتعسف في التوقيف؛ إذ هناك موقوفون كتب في ملفهم «التهمة: إسلامي» لا أكثر ولا أقل، وسُجنوا أشهراً عدة تحت هذه التهمة.
إلا أن من يتحدثون عن ملف المخطوفين الأستونيين يقولون إن بعض من يدير حركة الشبان المتحمسين يحاول إعادة طرح الملف، وخلق أزمة فيه، وتركه حتى ينضج للوصول إلى عفو عام عن المعتقلين، تماماً كما حصل حين أرادت السلطة في مرحلة ثورة الأرز إخراج سمير جعجع من أحكامه، فمنحت أيضاً العفو لمعتقلين إسلاميين متهمين بالمشاركة في مجموعة الضنية. ويضيف هؤلاء المتابعون أن الاهتزازات الأمنية يمكن أن تؤدي إلى تسريع الملف، وصولاً إلى إخراج المعتقلين أو طرح الملف للبحث، علماً بأن بيان «حركة النهضة والإصلاح» التي يفترض أنها الجهة الخاطفة، الذي يطلب فدية مالية، ينطوي على ارتباك أكثر مما ينطوي على مطالب جدية للخاطفين.
فالشخصيات الرئيسية المتهمة بعملية الخطف، مثل درويش خنجر، لديهم ملفات وفي حقهم اتهامات سابقة، فوائل عباس كان ضمن مجموعة أبو حذيفة، وحين تخلّى أبو حذيفة عن نشاطه والتزم الهدوء، بقي وائل على حراكه، واعتُقل بعض أفراد هذه المجموعة على خلفية أحداث السابع من أيار ثم أُطلقوا.
ودرويش خنجر (البالغ من العمر 22 عاماً فقط) مطلوب في عمليات متعددة، منها مقتل الرائد عبدو جاسر والرقيب زياد الميس، كما في عملية اغتيال يوسف يوسف، وهناك معلومات عن ارتباط يشده إلى كتائب عبد الله عزام (الجناح المحلي لتنظيم القاعدة).
وهناك رواية إعلامية تفيد بأن المجموعة الخاطفة التي يترأسها وائل عباس قامت بعملها بغية الحصول على بدل مالي بمجرد تسليمها المخطوفين إلى من طلب خطفهم، وهي الرواية التي ينفيها أبناء المنطقة ممن يعرفون وائل عباس ودرويش خنجر، ولا يوليها المتابعون الأمنيون الكثير من الاهتمام.
ولا يتعامل معظم أبناء المجدل مع عباس وخنجر بصفتهما طريدي العدالة، بل يرون فيهما ضحيتين، ويرون في المجدل أيضاً ضحية إضافية في حالة الفوضى السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد، وفي حالة النزاعات المستمرة التي تأخذ المجدل يميناً ويساراً وتغرّم شبانها ثمن حماستهم ودفاعهم عن أنفسهم، وأحد دلائل هذه الرؤية هو لوحة علقت في مكان عام بعد خطف السياح في المجدل وعليها عبارة «تَّعرَّف إلى أستونيا»، في سخرية سوداء مما تعيشه البلدة.
السبب والجثمان
تنتظر المجدل اليوم جثمان ابنها الآخر الذي قتل في عملية اغتيال راشد صبري، أي درويش خنجر، الذي لما يعد جثمانه إلى أرضه بعد، والبعض ينصح بأن يدفن الشاب خارج القرية لمنع التوتر، والبعض الآخر يرفض ذلك ويصر على دفن خنجر في تراب بلدته، وبين هذا وذاك الكثير من الحديث عمّن يقف وراء حماسة الشبان واندفاعتهم للعمل الأمني واعتبار السلطة المركزية ظالمة في كل الأحوال.
بين العوامل المسببة لوضع المجدل تحت الضوء شيء من الجغرافيا، حيث هناك الكثير من القرى العاصية على الدولة، أو التي ينخرط أبناؤها في أعمال غير شرعية، لكنها لا تتعرض لما يحصل في المجدل من عمليات دهم شبه دورية ومطاردات؛ فالمجدل تقع مباشرة على خط الحدود، والمسافة بينها وبين الحدود الإسرائيلية تقارب المسافة بينها وبين بيروت العاصمة، وبالتالي يجعلها موقعها الحساس والمتوسط، كما قدرة أبنائها على الوصول إلى سوريا دون عناء، والعبور نحو العراق (كما كان يحصل بعد الغزو الأميركي) منطقة ذهبية لأي عمل أمني، سواء من أجهزة الدولة اللبنانية، أو السورية، أو من منظمات جهادية، وحتى من عصابات التهريب.
كذلك، إن سمة أبناء المجدل التدين اجتماعياً، ودَخَلَتها السلفية في مرحلة مبكرة نسبياً (بدأت مطلع التسعينيات من بوابة بعض الخارجين من الجماعة الإسلامية). ويمكن في المجدل اليوم سماع صوتين: أحدهما يتهم بعض رموز السلفية في المنطقة بإثارة حمية الشبان وتوجيههم وصولاً إلى تقديمه فتاوى بجواز قتال الجيش إذا تعرّض المجاهد لدهم أو حصار من قوات الجيش. ثم يتخلى قادة السلفية عن تلاميذهم ويشيعون أنهم خرجوا على طاعتهم، ويستنكرون أفعالهم. والذين يحدثونك بهذا المنطق يقولون إنه لا بد من التفاهم مع رأس الهرم، لا العمل على ضبط الشبان المتحمسين.
والصوت الآخر الذي يمكن سماعه في المجدل هو أن هؤلاء الشبان ظُلموا مرتين: الأولى حين استثيرت حميتهم مذهبياً، ودينياً، وهم في كل الأحوال كانوا تحت أعين فرع المعلومات. لكن الفرع امتنع عن التدخل حين كان بالإمكان ضبط حركتهم، وتركهم حتى أصبحوا يوصمون بالإرهابيين، وارتفع سعرهم، وباتوا يمثّلون خطراً على أطراف سياسيين محليين وإقليميين (أي اتخذوا دوراً في الصراع ضد حزب الله وسوريا) ثم راح يحصدهم.
وأصحاب هذا الصوت يشيرون إلى أن يوميات السابع من أيار فتحت أعين الناس على أمرين: «الكسب السريع من أعمال الاضطراب، وأن حزب الله يخشى من انتشار السلفية الجهادية في البلاد».
في مقابل هذه الصورة، تركت السلطة صورة سلبية لدى كل أبناء المجدل، الذين لم يعرفوا منها إلا العمل البوليسي ضدهم، وترك الإعلام أثراً أشد سلبية أيضاً، فهو يذكر المجدل وأبناءها بصفتهم إرهابيين وخارجين على القانون، ولم تجد البلدة من يجرؤ على معالجة ملفها سياسياً واجتماعياً بدل المعالجات البوليسية.
ويتوقع بعض أبناء المجدل أن ينشأ جيل آخر بعد مجموعة وائل عباس، بالمواصفات نفسها والاندفاعة نفسها، ليستمر هذا النوع من المشكلات انطلاقاً من المجدل ما دامت قضاياها مع النظام المركزي لم تُعالج، وما دام هناك مَن يعمل على إدامة وضعها الحالي لأسباب مختلفة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك