من حق اللبنانيين أن يتساءلوا عن الأسباب المحلية، أو غير المحلية، التي جعلت من قضية الأمن، ومن قضية الأمن تحديدا، هاجسهم الكبير في الفترة الحالية. ولتساؤلهم هذا مبررات عدة، من المتفجرة على كنيسة السيدة في زحلة، الى خطف الاستونيين السبعة في البقاع من دون معرفة الدافع الى الخطف برغم مرور أربعة أسابيع على الحادثة، الى عودة التوتر مرة تلو الأخرى في مخيم عين الحلوة، الى أخيرا مقاومة رجال الأمن ومنعهم من القيام بمهامهم والاعتداء عليهم على خلفية محاولة ازالة مخالفات البناء.
أكثر من ذلك، فاذا كان الأمن في لبنان قرارا سياسيا قبل كل شيء، كما يقال دائما، فهل هو القرار السياسي ما يقف وراء التدهور الأمني هنا وهناك في هذه الآونة؟. ومن هو المستفيد في هذه الحالة، بينما لدى البلد من المشكلات السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية والأمنية ما يكفيه؟. واذا كان الموقف من أي حادث أمني غالبا ما يردد مقولة "رفع الغطاء عن الفاعلين" أو المتهمين، أفلا يعني ذلك أن "الغطاء" هذا كان متوافرا، فضلا عن أن يكون عامل تشجيع، قبل الحادث؟.
غني عن القول ان عاملين أساسيين يسهمان في صياغة المشهد السياسي، وتاليا الأمني، في لبنان في الفترة الحالية. أولهما، السلاح الذي يتفق اللبنانيون ـ وان بدرجات متفاوتة بدليل الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس ـ على الحاجة الى التخلص منه، أو على الأقل تنظيمه، لكي تستقيم الحياة السياسية ومعها موازين القوى بين مكونات الشعب اللبناني المختلفة طائفيا ومذهبيا وعرقيا. وثانيهما، ما يشهده العالم العربي من تغيرات شاملة وجذرية في ما يسمى "النظام" فيه، بل وفي خريطته السياسية، بما لذلك كله ـ ولجوار لبنان المباشر بالذات ـ من انعكاسات على هذا البلد باعتباره أول وأكثر من يتأثر بأوضاع المنطقة المتغيرة والانقلابات السياسية التي حدثت فيها، وما تزال تحدث فيها هنا وهناك حتى الآن.
واذا كانت أحداث لبنان الأمنية هذه معزولة عن السياق العام في البلد، أو ربما حتى فردية، فلا يقلل ذلك من أهمية تساؤل اللبنانيين حولها لا من حيث التنوع من جهة، تفجيرا وخطفا وتمردا واعتداء على رجال الأمن، ولا من حيث التوقيت الزمني واتساع رقعة أمكنة حدوثها بين البقاع والجنوب وبيروت من جهة ثانية.
ذلك أنه ليس جديدا على لبنان أن تلجأ قوى محلية، أو حتى قوى عربية واقليمية ودولية، الى استخدام ساحته المفتوحة قسرا لتوجيه رسائل بعضها الى البعض الآخر (ودوما الى اللبنانيين، وعلى حسابهم، وبدمائهم) واختيار أن تكون الرسائل أمنية في المقام الأول بعد ما يزيد على أربعين عاما من الحروب اللبنانية (الأهلية والطائفية) والعربية (الفلسطينية والعراقية والليبية) والاقليمية (الاسرائيلية والايرانية) والدولية (السوفياتية والأميركية) على هذه الساحة.
كما أنه ليس جديدا، في الوقت نفسه، أن يلجأ السلاح بين فترة وأخرى الى اعادة التذكير بأنه ما يزال موجودا، بل وبأنه ما يزال فاعلا بحكم الأمر الواقع، عندما يرى أن بين اللبنانيين من يتجرأ ـ كما هو الحال الآن ـ على اعتبار أن هذا السلاح مشكلة لبنان الأولى، فضلا عن أن يرفع بمناسبة ذكرى 14 آذار، ثم في كل مناسبة بعد ذلك، شعاره الأثير "الشعب يريد اسقاط هيمنة السلاح".
فهل يشهد لبنان في الفترة الراهنة تكرار هذين "اللاجديدين" ـ توجيه الرسائل واعادة التذكير بالسلاح ـ على أرضه وعلى حسابه وبدماء بنيه، أم أن ما يشهده هو محاولة القول للقاصي والداني، من اللبنانيين ومن غيرهم، ان ساحته المفتوحة منذ أكثر من أربعين عاما ما تزال مفتوحة برغم كل ما يحدث فيه وفي الجوار وعلى مساحة المنطقة كلها؟.
من السابق لأوانه اعطاء اجابة وافية على السؤال الآن، لكن من حق اللبنانيين أن يطرحوه بقوة من جهة أولى وأن يعبّروا عن خشيتهم من تبعات أية اجابة عنه من جهة ثانية. فليس من شك في أن اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، ومناطقهم وتياراتهم وانتماءاتهم السياسية، قد سئموا هذا النوع من الرسائل يتبادلها أصحابها من فوق رؤوسهم، ودائما بدمائهم، تماما كما سئموا لغة السلاح غير الشرعي تتم بها معالجة الاشكالات بين بعضهم البعض، وبينهم وبين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها الرسمية، سواء تحت لافتة رفع الغطاء السياسي عن الفاعلين أو من دون رفع هذا الغطاء.
أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي يتوقع فيه اللبنانيون ـ وهم على ما هم عليه من دون حكومة وحتى من دون أمل بتشكيلها في المستقبل القريب ـ أن يستغل ساستهم وقادة أحزابهم فرصة انشغال الخارج بشؤونه ومشكلاته الداخلية عنهم، فيعمدوا الى تسوية خلافاتهم والخروج من أسر الساحة المفتوحة، يفاجأون بأن هؤلاء الساسة وقادة الأحزاب أنفسهم هم الذين يشرّعون أبواب بلدهم أمام الآخرين (في الخارج، أو في الداخل "الصديق" له) كلما لاح في الأفق امكان اقفالها.
هل ما يتساءل عنه اللبنانيون، في هذه الظروف، حول أمنهم الشخصي وأمن بلدهم الوطني، يمكن أن يوصم ـ كما هي العادة لدى البعض ـ بأنه خيانة عظمى أو عمالة للصهيونية العالمية والولايات المتحدة، حتى لا نقول انه تآمر على "المقاومة" و"الممانعة"؟.
قد لا يكون مفاجئاً لهم أن يستمعوا الى مثل هذه النعوت، ردا على مجرد طرح السؤال، وفي هذه الظروف.
فلم يتغير شيء حتى الآن، لا في الممارسة على الأرض ولا في اللغة التي غالبا ما تستخدم لتوفير "غطاء" لها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك