وجه النائب زياد أسود رسالة الى "رفاقه في التيار الوطني الحر" جاء فيها:
"قلما نجد وطنا يكتب تاريخه الحقيقي في يوم واحد، ويكتب حتى دون التوقيع على وثيقة او ورقة بين ابنائه، ولكن لبنان شكل منذ 13 ت1 1990 هذا الاستثناء.
يوم مشؤوم ومجنون هو، سقط فيه عدد هائل من الشهداء في دفاعهم عن الحرية والكرامة والتحرر على التلال وعلى المعابر وفي قرى قضاء بعبدا وفي غير مكان، كنا نسمع دائما ان المصاب يخفت مع الوقت وحجمه والمه يذوبان، ولكن في ذلك اشكاليات مختلفة، إذ لا تعود معها تتذكر حجم الالم او تتعلم منه وفيه اي شيء، فسرعان ما تكرر فعلتك بعد حين، وكأن شيئا لم يكن.
إلا ان هذا النهار يحتفظ، في مكان ما من القلب والعقل بزاويته الاليمة، ويحجز في ذاكرة الوطن فسحته الكبيرة واثره الاكبر بشاعة بتلك الدمعة التي تشعر بتساقطها دوما ويوما بعد يوم في اول لحظات الألم وفي غياب الأمل وبالتأكيد وقوع الهزيمة، بأن عليك حتما الا تتراجع، إذ لم يحن وقت النوم بعد ولا حل الموت قبل حلوله.
ليس سهلا ان تستعيد الذاكرة والعمر أربعا وعشرين ساعة مرت منذ ستة وعشرين عاما، ليس سهلا ان تصحو صباحا على دوي طائرة تخرق جدار الصوت وفوقها طائرة معادية لها ولنا تراقب نهج قتلها المبرمج المرسوم على خط النار المحدد دوليا واقليميا، والمتواطئة داخليا حتى عمق الخيانة للوطن وللشعب والمؤسسات.
ثم تستفيق من برهة المؤامرة المحاكة على اصوات القذائف والرصاص يعلو ويخبو ويعلو ويخبو ثم يهدأ بعد حين، ثم ينفجر ويصيب مقتلا في كرامة وطن وشعب ومقاومة، ليس سهلا ان تستمع إلى الاذاعة اللبنانية، ثم ينبض قلبك في صدرك، إذ تسمع صوت العماد ميشال عون، ثم يجمد الهواء في رئتيك، فتعتقد انها دعوة للقتال والصمود، فالنصر آت وقد لاح، لكنك وبالعكس، تسمعه يطلب من الوحدات العسكرية تلقي الاوامر من العماد اميل لحود، اميل لحود هذا كان عميدا بالنسبة الينا، حتى عندما غادر الغرفة العسكرية وانتقل دون اعتراض وبشبهة الهرب، فقط لانه ابن مؤسسة عسكرية، وتسأل عبثا، لماذا يرفعه العماد إلى رتبة العماد، بالنسبة الينا انذاك، كان مجرد ضابط خانته الشجاعة فلم يمر بمعمودية النار المقدسة قبل ان يمر بمعبر المتحف.
ثم بقيت الوحدات تقاتل وتقاتل حتى الرصاصة الاخيرة، وحدات صمدت على جبهات الدوار تواجه امواجا متدفقة، مثلها في ضهر الوحش حيث كشر الوحش عن فظاعة انيابه وعن تخطيه لكل القيم العسكرية للجيوش النظامية، مثلها في كاليري سمعان وعيون الضباط تفقأ حقدا وهمجية، هذا ما شعرت به في ذلك الصباح وخلال ساعاته الاولى، لحظة اختفى فيها موج الغضب فدبت معه الانسانية المفرطة تجاه جيش احتلال واسعاف قاتل والخوف على المقاتل.
فتراك تنتقل مع رفاقك في الصليب الاحمر اللبناني إلى مهام الاسعاف والدعم، محاولا عبثا اشاحة النظر وتعطيل الدماغ عن التفكير بسبب الحياد هذا، وانت تعلم انك ستصادف سوريا ولبنانيا عميلا فلا تتردد عن الخدمة، فتتراءى لك صور ومشاهد ومواقف متناقضة متشابكة كمزاج السكارى الضائعين المتلعثمين.
ما بالك الا ترى بأم العين، وكأنك اعمى، الا تحس بألم ولا تشعر بخوف، تلامس الدم المسال، تشم رائحة البارود واللحم الحي حيث لهيب النار تشوي الناس حتى العظام، ثم ترى اخرين معلقين مصلوبين، تنظر إلى عيون الشهداء المجمدة، تكلمك عن الشجاعة، وعن الاستبسال في الدفاع عنك انت انت قبل غيرك، الا تسمع، الا ترى، الا تتذكر، اجساد منخورة، مغربلة، منها مشوه وغير معروف، اشلاء باشلاء وخراب اينما حلوا، ثم قذائف قذائف تتساقط وتتوزع من حولك، فتتقدم رغم ذلك دون خوف، واذ بك تتواجه مع حربات البنادق على مفترق الطرقات، هنا نرى الانسان بغير صورته وصورة خالقه، انت وحدك البطل، البطل الحقيقي لوطن مهزوم، حيث لا مواقع تواصل الكتروني، ولا تفاهات، وشعارات فارغة، وصور مركبة، ولا تمثيل ولا نميمة ولا خبث وغرور ولا ادعاء بطولة ولا السنة معلوكة، وحدك وحدك البطل الدائم حتى حلول الموت، لانك لا تقاتل من خلف متراس، ولا تحمي رأسك في ملجأ، ولا ترد الرصاص بالرصاص ولا تقبض اجرا وعمولة، عزل كنا مثل كل الذين التقيناهم جثثا اربا اربا، لقد مزقتنا القذائف دون ان تصيبنا، وقتلنا الرصاص دون طلقة، وصرخ الحق بوجهنا، اترك صليبك واتبعني، فكانت مقاومة ونضال وتشفي وسجون واحكام العملاء على الشرفاء، وقتل وقتل يومي ممنهج لارادة الصمود، وتسأل احائر انت بعد اليوم!!!
كان بيننا وبين الموت سحابة، ومضة، ربك ورحمته، والعذراء مريم ترافقنا في سيارات الاسعاف بين الاحياء والجبهات المقاومة، تربت لنا على الاكتاف وتمسح لنا الجبين، لا تقلقوا، انا معكم، هلموا، لا تنسوا، ولا تتعبوا، انها جلجلة لبنان بكل المحطات والمآسي، ولكن لا تخافوا هو معكم هو مع شعب لبنان العظيم.
من صباح ذاك 13 ت 1 1990 إلى مسائه الكئيب الكئيب والحزين الحزين، حدقت في وجوه الناس التي فقدت أملها في خمس عشرة ساعة، حدقت في سواد الليل الطويل، وصورة الاحتلال الاطول وجماجم الشهداء المعلقة على أعمدة النسيان، أحسست فجأة أنني كبرت خمسة عشر عاما.
أما أنا اليوم لست بخير وتسألون بعد لماذا انتم مع ميشال عون ؟
ربما هذه الرسالة تجيبكم عن اسئلتكم، وتلغي ترددكم لان قصر الشعب بإنتظاركم فلا تخافوا".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك