في 19 شباط 2015، أطفأ العماد ميشال عون شمعة عقوده الثمانية من منزل الرئيس سعد الحريري في وادي أبو جميل. حينذاك، تمنى لو أن مضيفه (الرئيس سعد الحريري) يحمِل إليه تذكرة «وان واي» إلى قصر بعبدا. لم تُستجَب دعوته على وجه السرعة، غير أنه نال جزاء الصابر بعد عام ونصف عام، فكان له ما أراد... «هديّة» أخرجها رئيس تيار المستقبل من فمه بعد طول انتظار... «ميشال عون مرشحنا لرئاسة الجمهورية».
ما بينَ الرابية ووسط بيروت طريقٌ طويل، وريحٌ خريفية لها أن تغيّر مصير بلد. لا يُشبه صخبها الهدوء الذي سيطَر على طول الشارع المؤدي من البوابة الخارجية لمنزل الرئيس الحريري حتى بابه الرئيسي، قبل ساعتين من إعلان الترشيح. لا عرس، ولا أنخاب احتفال، ولا إشارة توحي هنا بأن ثمة شيئاً يدعو إلى الفرح، رغم الكلام عن مرحلة رئاسية جديدة، وجهد في تكريس الكيمياء المستجدة بين «الشيخ» و«الجنرال». الأحاديث المتنقلّة أوحت بواقع مفروض فرضاً على المستقبليين. قبل ساعة من المؤتمر الذي عقده الحريري، بدأت الغرفة الخاصة بالصحافة تعجّ بالمراسلين والمصورين. في انتظار الحدث، حُكيت قصص كثيرة عن السيناريوات المقبلة، سواء انتخب عون أو لم يُنتخب. لا شيء ثابتاً، سوى أن الابتسامات القليلة التي رسمت على وجوه العاملين في بيت الوسط، لا تعكس تصالحاً ذاتياً مع خيار الحريري، أو الأصح لا تحمل ثقة بما يُمكن أن يترتّب عليه. من غرفة الصحافة، باتجاه قاعة المؤتمر، هرع الجميع لحجز مقاعدهم. وسط التصفيق، دخل الرئيس الحريري إلى المنصّة، بعدما تأكد من حضور معظم نواب كتلته، تتقدمهم عمته النائبة بهية الحريري، وطبعاً نجلاها نادر وأحمد، إضافة إلى النائبين محمد الصفدي وخالد ضاهر، وأعضاء المكتب السياسي لتياره، وأعضاء مجلس بلدية بيروت ورئيسه جمال عيتاني.
سبقه بدقائق معدودة الوزير نهاد المشنوق، على عكس الرئيس فؤاد السنيورة الذي تأخر نحو ربع ساعة عن الموعد المحدّد. سقطت عن وجه الأخير تلك البرودة التي طالما اعتلته، وحلّت مكانها تقطيبة حادة تنمّ عن انزعاج واضح. جلس منكمشاً على نفسه، خافضاً عينيه نحو الأرض أغلب الوقت. حال رئيس كتلة المستقبل المنكسرة، قابلتها حال من الاتزان والعناد، ترجمتها نظرات الثقة التي وزعتها الدائرة المقرّبة من الرئيس الحريري، وعكست إحساساً بالراحة لـ»انتصار خيارها».
لم يكُن ما قاله الحريري أمس بمثابة مفاجأة. أصلاً كل الذين تجمعوا أمس في بيت الوسط أتوا ليسمعوا قرار ترشيح عون. أما هو فلم يبدُ مرتاحاً البتّة. ظهر كمن يعتريه الضيق في أرجاء منزل فسيح، يعجّ بأسئلة أكبر من الإجابة عنها في لحظات الانكسار. توتّره أنساه رمي السلام على الحاضرين من على المنبر، فدخل مباشرة في الموضوع. بذكاء مهّد الحريري لقراره. استحضر لسان والده «الرئيس الشهيد رفيق الحريري» وعقله. بدأ كلمته بتساؤل عمّا كان سيفعله الرئيس الراحل لو كان بيننا اليوم، سواء لجهة الاغتيالات التي تعرض لها رموز في فريق 14 آذار، أو أحداث السابع من أيار 2008، أو الانتخابات النيابية عام 2009، أو «تورط حزب الله في الدم السوري»، واستمرار الفراغ وتعطيل المؤسسات. طبعاً ما كان الرئيس الشهيد ليقبل بكل هذا، كذلك كان سيرفض مقاطعة الشركاء في الوطن. من هذه النقاط بدأ الرئيس الحريري يمهّد لإعلان الترشيح، راكناً حديثه على مداميك ثابتة أساسها «حماية الوطن من الانهيار»، تولّى تلحينها باللجوء إلى لغة العاطفة. هو السياسي «الزاهد» الذي أنفق كل ثروته دفاعاً عن حلم من أورثه. وهو «الثوري» الذي يُحارب من أجل «إنقاذ بلده من الحرب الأهلية». وهو أيضاً «المُنقذ» الذي يريد وضع «حدّ للفراغ الرئاسي»، و«المحارب» الذي لن يتراجع عن الهجوم على حزب الله الذي «يعبّئ شارعه بخطاب مذهبي وفتنوي»، و«المضحّي» المخاطر بنفسه وشعبيته لحماية شعبه. هكذا قدّم الحريري نفسه، في معرض شرحه الأسباب الموجبة التي تدفعه إلى دعم العماد عون. يقرّ بأن ما يفعله يمكن أن يكون «مغامرة» سيكون هو أكبر الخاسرين فيها، لكنها تبقى الضوء الوحيد في النفق المظلم، في ظل «انسداد الأفق ورفض ربط لبنان بما يجري حوله في سوريا، العراق واليمن وباقي دول المنطقة».
في لحظة الإعلان، بدا الحريري وكأنه هو لا يستسيغ ما يريد قوله. بدا على ملامحه الانفعال لدى إعلانه اسم عون. لم يساعده على «لملمة» أعصابه سوى تصفيق محدود أعاد تصويب نبرته. في القاعة كثر ابتلعوا القرار على مضض، وفاءً لخط الرئيس السياسي ورغبته. وكثر لم يتقبّلوا طيّ صفحة من الكيد السياسي بين الجنرال و«الشيخ سعد». كيد لا تفلح أي تبريرات في طمسه، رغم إعلانه أن «الاتفاق مع عون يشمل الحفاظ على النظام وعدم تغييره إلا بموافقة كل القوى اللبنانية، وتعزيز عمل الدولة وسلطتها، وإبعاد لبنان عن المحاور وتحييده عن الأزمة السورية. وبعد أن يأتي الحل في سوريا تعاد العلاقات مع الأطراف المتفقة هناك».
5 نواب غابوا عن الإعلان، رفضاً لما فعله الحريري، وهم محمد قباني، عمار حوري، أحمد فتفت، نضال طعمة ومعين المرعبي، واثنان غابا بداعي السفر، هما غازي يوسف وعقاب صقر. حتى الذين أتوا مرغمين، أوحى مجيئهم بأن المهمة لن تكون سهلة. فماذا بعد الإعلان؟ سؤال بديهي فرض نفسه على نواب كتلة المستقبل. بعضهم سيطر عليه الصمت المطبق. صمت لم يكسره سوى دردشات لبعض نواب الشمال، الذين لا يبتلعون خيار عون ويحذرون من غضب شعبي أكيد. هؤلاء لم يعلنوا أنهم لن يصوّتوا لعون في الهيئة العامة، لكنهم أشاروا إلى أن طريق الرجل إلى بعبدا ليست سالكة، من بينهم النائب رياض رحال الذي أكد أنه «في بيت الوسط، ألتزم بقرار الكتلة، أما في مجلس النواب فأنا سيد نفسي»! وكذلك النائب أمين وهبة الذي ربط «المقبل من الأيام بالتطورات الممتدة من سوريا حتى الولايات المتحدة الأميركية»، وأيضاً النائب فريد مكاري الذي تحدث بصراحة كما فعل السنيورة الذي أعلن أن «حضوره في بيت الوسط شيء وموقفه من العماد عون شيء آخر»، وهذا ما قد يرفع عدد النواب المعترضين على التصويت لعون إلى أكثر من عشرة نواب.
قال الحريري الكثير في وقت محدد. وصف كلامه «بخطاب الضرورة». في كلّ المشهدية لم يذكر مرّة اسم الرئيس نبيه برّي، متناسياً أنه كان يوماً ما «الشريك المدلل» لعين التينة، مع ذلك لم يفته التطرق إلى «الصديق العزيز جداً الوزير سليمان بيك فرنجية». ربما هو الشعور بالخجل من «نكران الجميل». فللرئيس برّي «مكانة غالية جداً»، كما قال الحريري في اجتماع مصغر عقده بعد كلمته مع عدد من النواب وأعضاء المكتب السياسي، أكد فيه أن «أبو مصطفى صديق غال، ومكانته محفوظة». كيف سيبادر الحريري تجاه بري في الأيام المقبلة؟ «تمهيد» الطريق إلى عين التينة، بحسب العارفين، سيكون بالنسبة إلى رئيس تيار المستقبل «أكثر سهولة مما أقدم عليه أمس، لجهة تشريب كتلته وجمهوره كأساً مرّة كترشيح غريمه في السياسة ميشال عون».
"الأخبار"
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك