ليس خبراً عاديّاً أن يزور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز روسيا، بل هو خبر استثنائي، غير مسبوق أولاً، ويؤشر ثانياً على أنّ عالمَ اليوم محكوم ببراغماتية تتخطى الاصطفافات المسبقة والمواقف المؤدلجة والتعليب الفكري الذي ربط العلاقات الدولية في زمن الحرب الباردة خصوصاً، بحبال أكبر من السياسة والاقتصاد والتجارة وحركة الأسواق.
تقطّعت تلك الحبال مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الفكرية والسلطوية، ودخول كياناته العائدة من التذويب القسري والجمْعي الى وطنيّاتها وحيثيّاتها الذاتية، في بديهيات العولمة وشروط السوق وحوافي الليبرالية وخصوصاً في روسيا نفسها الذاهبة مع فلاديمير بوتين الى تجربة دمجيّة، تأخذ من الصين مثال الانفتاح الاقتصادي من دون السياسي، وتأخذ من الغرب شكليات تداول السلطة وسيادة القانون من دون جعل العامل الاقتصادي مُقرّراً وحاسماً في ذلك التداول.
طلّت روسيا على العالم وفق شروط هذا العالم بدايةً، قبل أن يسعى بوتين الى جعل تلك الإطلالة محكومة بشروطه هوَ. لكن في الحالتَين عادت لغة السوق والمصالح لتتسيّد على الأدلجة المجرّبة والفاشلة. وعلى نتاجاتها التي أنكرت الغيبيات لكنها لعبت أدوارها! وراحت تُحدّد وفق قياساتها البشرية ما رفضته في القياسات الدينية! واستبدلت الحزب بالكنيسة. والأمين العام وحواشيه برموزها. ومطوّلات التعبئة الطبقية و"الحتمية التاريخية" بنصوصها التوجيهية!
.. روسيا اليوم "أشطر" من روسيا الأمس. وأكثر حيويّة مما سلَف. وإليها يذهب الملك سلمان بن عبد العزيز بحثاً عن تطوير العلاقات والتفاهمات في السياسة والاقتصاد وشؤون الطاقة وغيرها. وينطلق في ذلك، من الأسس نفسها التي اعتمدتها المملكة طوال تاريخها، وحَكَمَت شكل علاقاتها ومضمونها، مع كل دول العالم ومع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تحديداً. وفي أول ذلك أنّها دولة مركزية ومحورية تحترم نفسها مثلما تحترم غيرها. وترفض التدخل في شؤون الغير مثلما ترفض التدخل الخارجي في شؤونها. تلتزم أسس العلاقات السلمية والصحيحة بين الدول ولا تتخطاها. ولا تحمل مشروعاً ريادياً على حساب غيرها. ولا تطمح لنفوذ مُدّعى فوق الحرائق. ريادتها الدينية كافية وافية. ومحوريّتها في السياسة والمال والطاقة لا تُجادل ولا تُستبدل. تصدّر مساعدات وليس ميليشيات. وتساعد الدول وليس الدويلات. والشرعيات وليس الشارع. وتعتمد لغة الحوار والاعتدال وليس الصدّ والتطرّف.
في حقائق الوضع الراهن، أن السعودية مُعتدى عليها وليست معتدية. وسياستها دفاعية وليست هجومية، إلاّ إذا افترضت إيران وأتباعها، أن المطلوب منها أن تكتّف يديها إزاء ما يحصل من اليمن الى شواطئ المتوسط! وأن تكتفي بالتفرّج على النكبات النازلات بشعوب هذه المنطقة! ثم أن تشرّع حدودها أمام موجات "الحداثة" و"التنوير" الآتية عبر "الحرس الثوري"! وأن تُذعن لمنطقهِ ومنطلقاته!
ما تفعله القيادة السعودية اليوم، في السياسة والديبلوماسية والاقتصاد والتنمية والاجتماع وشؤون الميدان العسكري والأمن والعلاقات الدولية يدلّ على مقاربة منطقية وسريعة للواقع القائم وليس المتخيّل. وعلى مقارعة التحدّيات الآنيّة والمستقبلية، الداخلية والخارجية بما يتناسب ويتناسق مع كل حالة منها وتحت سقف الالتزام بالثوابت المألوفة وتطويع ما أمكن منها وفق مقتضيات الحداثة ولغة العصر.
بهذا المعنى، فإنّ استثنائية زيارة الملك سلمان الى روسيا متأتية من استثنائية الأداء المركزي المتكامل الذي استحدثته القيادة السعودية، والذي يرى العالم، ظواهره توالياً، وبما يفاجئ القريب والبعيد (إزاء بعض تلك الظواهر) وبما يسرّ خواطر الأصدقاء والحلفاء، ويزعج الأخصام والأعداء!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك