تعتمد معظم الدول في سياستها الخارجية "هندسة" دقيقة ومتوازنة لعلاقاتها مع باقي الدول، وتقوم أغلب الاحيان على مصالح الشعب والبلد السياسية والاقتصادية.
ولمعظم دول العالم صغيرة كانت أو كبيرة، متقدمة او حتى دول العالم الثالث، سياسات خارجية واضحة ومدروسة تفرز الدول الاخرى بين صديقة وعدوة او حليفة، وتعتمد معياراً موحداً في العلاقات معها، خصوصاً الدول التي تكون بينها مصالح اقتصادية، أو منفعة مباشرة للشعبين، لكن المعيار الموحد هو إما علاقات متبادلة بين دولتين ذات سيادة، او علاقات مقطوعة بفعل عوامل مختلفة ابرزها سياسية.
تستطيع الدولة اللبنانية ان تعتمد السياسة التي تراها مناسبة في علاقاتها الخارجية، وتستطيع ان تقف على مسافة واحدة من كل الدول والا تكون في محور معين، وان تعتمد سياسة عدم الانحياز او حتى النأي بالنفس، إلا انها لم تعد تستطيع ان تهرب من واقع انها تقع في منطقة مشتعلة فيها عدو وفيها صديق، وان ما يجري حولها لن يتركها في منأى عن تداعيات بدأت تصبح خطيرة على الواقع الداخلي، ومنها النزوح السوري الذي بات عبئاً على كافة مفاصل الحياة في لبنان امنياً واقتصادياً واجتماعياً، بما يفرز يومياً وقائع تجعل المواطن اللبناني يحتار ويسأل عن مستقبل غامض لبلد سبق ان خبر النزوح الفلسطيني الذي بات بعد عقود توطيناً مبطناً وإن في مخيمات بعضها يصنف مناطق خارجة على سلطة الدولة!
لبنان الذي كان يوماً صلة الوصل بين الشرق والغرب ومفتاح المنطقة إقتصادياً وثقافياً وملتقى الحضارات وحوار الأديان، انحسر دوره إلى درجة لم يعد معها السكوت جائزاً، لا بل لم يعد موقف الدولة واضحاً من امور دبلوماسية واضحة لا يلزمها تفسير.
إذا كان لبنان على تماس مباشر مع كيان غاصب احتل ارضا عربية وخاض حروباً مع فلسطين ولبنان وسوريا والاردن ومصر، ويصنف عدواً مطلقاً، فإن العلاقة الملتبسة مع سوريا الجارة الثانية التي له حدود معها، غير مقبولة وباتت تؤثر على لبنان واللبنانيين إلى درجة ان التناقض في تفسير تلك العلاقة يجعل سياستنا تجاه سوريا غير مفهومة لا بالمنطق ولا بالقانون، وعلى الدولة اجراء مراجعة شاملة لتلك العلاقة إذ لا يمكن ان يستمر الوضع كما هو عليه، ومن غير المقبول ان يبقى التناقض في العلاقات قائماً إلى درجة الفوضى، وعلى دولتنا توحيد المعيار في التعاطي مع سوريا التي تبقى رئة اقتصادية يتنفس منها لبنان، (خصوصاً مع اقتراب إعادة فتح المعابر البرية بين سوريا والاردن وبين سوريا والعراق) وتبقى سوريا (ولو على الورق) بالنسبة إلى البعض، جارة يقيم معها لبنان علاقات دبلوماسية ومعاهدات تعاون وصداقة لا تزال قائمة والاهم تبادل السفراء رغم كل ما حصل ويحصل، وهناك من يرفض البحث في موضوع إعادة النازحين الذين يمكن لعدد كبير منهم ان يعود إلى بلاده بما يريح الاقتصاد اللبناني المترنح، والذي يتفرج عليه المجتمع الدولي يختنق رغم الوعود والتطمينات.
على الدولة تطبيق مفهوم التعاطي الخارجي مع سوريا بمعيار واحد وتصنيفها بما يتلائم مع الوضع اللبناني وحاجة لبنان ومصلحته، لان الشعب المخنوق إقتصادياً من كل الطوائف والمذاهب لم يعد مقتنعاً بتبريرات ونظريات وافعال لا تتناسب مع الوقائع والمخاطر القائمة، فكيف لدولة ان تبرر وجود سفير لها في دمشق والعكس صحيح، زيارة وزراء منها إلى سوريا وإن بصفة شخصية، وعدم جواز إراحة الشعب الذي يئن عبر محاورتها لإعادة 1.6 مليون نازح من مواطنيها الذين يكلفون الشعب والدولة اللبنانية مليارات الدولارات تذهب من امامهم؟!
بوادر إعادة إعمار سوريا تلوح، والدول العملاقة المهتمة بهذه العملية (روسيا والصين والولايات المتحدة واوروبا التي لنا معها علاقات دبلوماسية كعلاقاتنا مع سوريا) تفتش عن موطئ قدم قريب منها يكون منطلقاً اليها، ومن افضل من لبنان المفتوح على البحر والبر ليكون تلك النقطة، فهل تؤدي الخلافات السياسية وتسجيل المواقف الإعلامية فقط، إلى فقدان فرصة ان نعيد ما خسرناه على إيواء النازحين، عبر خسارة فرصة الاستفادة من عملية إعادة إعمار سوريا فقط لاننا لا نعرف ان نحدد علاقتنا الخارجية بها رغم كل ما تقدم؟!
على الدولة ان تحسم موضوع سياستها الخارجية، فليس منطقياً ان تذهب الجهود الجبارة لإعادة المغتربين إلى جذورهم، سدى وفداء لعدم عودة النازحين السورين إلى بلادهم عبر حوار بين بلدين مستقلين تحكم علاقاتهما الجغرافيا اولاً ووقائع غير قابلة لتصبح من التاريخ ثانياً، وهذا ليس تمنياً شخصياً بل واقعاً تاريخيا!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك