طوال سبعين عاماً من العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان، ندر أن تواجه لبنان الرسمي مع الكرسي الرسولي. الإصرار على تعيين سفير لبناني رغم علاقته بالماسونية، وخلق مشكلة ديبلوماسية، سيكونان سابقة تسجّل على لبنان.
"الله مع العهد". عبارة كتبها الرئيس بشارة الخوري حين اعترف الفاتيكان باستقلال لبنان عام 1946، قائلاً إنه تعوّد والرئيس رياض الصلح أن يقولاها في "الظروف الخطيرة". لا نعرف إذا كانت العبارة ملائمة، بعد تسجيل أول خطوة متعثرة لم يشهد لبنان مثيلاً لها، طوال 70 عاماً من العلاقات الديبلوماسية مع الكرسي الرسولي.
فإذا كان الخوري قد تعامل مع قبول الفاتيكان بهذه العلاقات بأهمية كبرى، معتبراً أنها "ظروف خطيرة"، فكيف يمكن لهفوة ديبلوماسية أن تمر اليوم مع الفاتيكان مروراً عابراً؟
عدم قبول الفاتيكان باسم السفير اللبناني المقترح جوني إبراهيم، لأسباب تعود الى علاقته بمحفل ماسوني، ليس أمراً عادياً. والتقليل من أهميته، كما يدور في أوساط التيار الوطني الحر، يتعدى بأشواط المناكفات المحلية الداخلية، أو تحميل المسؤولية لدوائر القصر الجمهوري والمستشارين فيه، أو وزارة الخارجية، باختيار شخصية يعرف المتعاطون مع الفاتيكان، من روحيين ومدنيين، أنها لم تكن لتقبل، رغم علاقة عائلة المعني ببكركي وبأوساط كنسية.
فتعيين سفير في الفاتيكان، كما جرى العرف، كان ولا يزال محصوراً برئاسة الجمهورية. هكذا كانت الحال رغم اختلاف العهود والرؤساء. ولا يتدخل رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب، لا قبل الطائف ولا بعده، في اختيار الاسم، الامر الذي يحصر مسؤولية اختيار السفير برئاسة الجمهورية. كذلك، فإن مجرد التعاطي الاعلامي والسياسي طوال هذه المدة ودخول مسؤولين روحيين على خط الفاتيكان، والاسئلة التي طرحها الكرسي الرسولي حول اسم الشخصية المعينة وعلاقتها بالمحافل الماسونية، كل ذلك كان كفيلاً بأنْ يدرك طارحو الاسم أنَّ من الضروري إصلاح الهفوة التي ارتكبت، لا الإصرار عليها والتخفيف من تأثير كلمة "الماسونية"، متذرعين بعلاقة سياسيين لبنانيين على مدى تاريخ لبنان بها.
فسحب التعيين من التداول والمسارعة الى لملمة العلاقة مع الكرسي الرسولي، الذي لا يمكن أن يتراجع فيقبل ما يرفضه وفقاً لأعرافه، وتبليغ الدوائر المعنية الديبلوماسية والسياسية بذلك من دون ضجة، ومن دون إعلان رسمي أو تبجّح بالرفض، كان سيكون أكثر ملاءمة لعلاقة لبنان بالكرسي الرسولي. لكن الدوائر المعنية تغاضت عن كل ذلك لأسابيع، وتعاطت مع الفاتيكان بما لا يشبه مطلقاً تاريخ علاقة لبنان بالكرسي الرسولي وبما لا يتماشى مع الأصول المتبعة، خصوصاً أن المعنية هذه المرة بما سيذكره تاريخ العلاقة بين البلدين، هي دولة الفاتيكان، بكل ما تمثله من رمزية دولية ومسيحية. فجاء افتعال المشكلة التي لم تُفهم أسبابها، خصوصاً أن الحساسيات السياسية لا دور لها خلافاً لما يحصل مع دول اخرى، ليترك تساؤلات عن مغزى المضيّ بافتعال المشكلة والنتائج السيّئة لها، لا سيما أن البابا فرنسيس مدعوّ رسمياً الى زيارة لبنان. فكيف سيعالج وضع السفيرين من الآن حتى موعد الزيارة، إذ لا يمكن للبابا أن يلبّي الدعوة من دون وجود سفير لبناني في الفاتيكان واحتمال عدم وجود سفير فاتيكاني في بيروت.
منذ تعيين أول سفير لبناني في الفاتيكان، وهو الرئيس الراحل شارل حلو، وصولاً الى السفير المتقاعد العميد جورج خوري، حافظ الفاتيكان على علاقة وطيدة مع لبنان الرسمي، بعيداً عن روابطه بالمسيحيين والكنائس التابعة له، وبالطوائف الاسلامية وشخصيات سياسية بارزة فيها. يقول الرئيس بشارة الخوري في مذكراته "حقائق لبنانية"، إن لبنان سعى الى اعتراف الفاتيكان باستقلاله "لضرورة اطمئنان بعض الفئات من المسيحيين أن الاستقلال اللبناني (...) سيؤدي الى أن الدول العربية الاسلامية سوف تبتلع لبنان وتقضي عليه"، مشيراً الى أن اعتراف الفاتيكان كأوسع سلطة معنوية في الدنيا والعالم الكاثوليكي بالاستقلال "يرسّخ استقلالنا ويرفع الشبهة عنه".
في 17 آذار عام 1947 قدم السفير شارل حلو أوراق اعتماده الى البابا بيوس الثاني عشر كوزير مفوض الصلاحية. أهمية كلام البابا حينها أنه حدد دور لبنان المستقل للمرة الاولى، حين تحدث عن حريته واستقلاله وعن دعوته الى "تحقيق العيش المشترك الهادئ والأخوي". وعلى مرّ السنوات السبعين، عايش لبنان بعد الاستقلال ستة بابوات، هم بيوس الثاني عشر والبابا يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبنيديكتوس السادس عشر وفرنسيس، ولجميعهم محطات بارزة في إطار تعزيز العلاقة مع لبنان. تكفي مراجعة كلماتهم أثناء تقديم السفراء اللبنانيين المنتدبين الى الفاتيكان أوراق اعتمادهم، عن لبنان الحضارة والقيم والتعايش، وعن المحنة التي مرت به والمصالحة الوطنية التي يجب ألا تتم على حساب العدالة والحقوق الاساسية، وعن العلاقات بين مختلف الطوائف. وتكفي الخطوات الاساسية لوقف الحرب ومساندة اللبنانيين من خلال الزيارات البابوية المتكررة، وتحرك الموفد البابوي الى جزين سيلستينو بوهيغاز ومبادرات السفير بابلو بوانتي والسينودوس من اجل لبنان.
كل ذلك تم القفز فوقه، لأسباب غير جوهرية، وافتعلت مشكلة من لا شيء، بحسب أوساط كنسية على صلة دائمة بدوائر الفاتيكان الاساسية، وسياسيين اعتادوا مواكبة التعيينات الديبلوماسية في الكرسي الرسولي. فمجرد صدور خبر الرفض في الإعلام الكاثوليكي المتخصّص في أوروبا والتذكير برفض البابا فرنسيس، وقبله بنديكتوس، ومحاربته الماسونية علناً، وبأن لبنان أخطأ بنشر اسم السفير قبل إبلاغ الفاتيكان به، يعني أن الضرر قد وقع.
يقول شارل حلو في مذكراته، واصفاً الفاتيكان أثناء مهمته فيه، "إذا كان الفاتيكان عاصمة الروح خصوصاً، فهو أيضاً عاصمة الصمت... تحت سقوف تهيمن على أجوائها الحكمة والفطنة والرصانة". المشكلة تكمن في أن البعض اعتبر أن كثرة الضجيج اللبناني قادرة على كسر صمت الفاتيكان ورصانته وفرض أعراف جديدة عليه.
الكنيسة والماسونية ضدّان لا يلتقيان
لا يمكن اختصار العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والماسونية ببضعة سطور، نظراً الى كثرة الأفكار والعقائد والقوانين التي تحيط بها والتي كتب عنها الكثير. لكن ما يختصر موقف الكنيسة منها منذ عام 1884 هو أن الكنيسة ترى في الماسونية "أفكاراً فلسفية ومعايير أخلاقية تعارض العقيدة الكاثوليكية". وبحسب رؤية القوانين الكنسية، فإن الماسونية تهدف الى تهديم الكنيسة، وهي تختلف بنظرتها الى الله عن نظرة الكنيسة وإيمانها، وتعارض مبدأ العقيدة، إضافة الى السرية التي تطبع اجتماعاتها. ويصف علماء لاهوتيون العلاقة بين الكنيسة والماسونية بأنها "لا يمكن لأي فرد الانتماء الى الاثنين معاً؛ فالالتزام بواحدة منهما يعني التخلي عن الأخرى". ورغم حوارات جرت بين الطرفين ونظرة متغيرة الى بعض المحافل الاوروبية، إلا أن العنوان الرئيسي ظل يعبّر عن رفض الكنيسة لأي علاقة مع الماسونية واعتبار أن كل كاثوليكي ينتمي الى أحد هذه المحافل يرتكب خطيئة مميتة ولا يستحق تناول القربان المقدس، كما قال الكاردينال جوزف راتزينغر الذي أصبح البابا بنديكتوس السادس عشر، حين كان رئيساً لمجمع العقيدة والايمان. لكن هذا البند الاخير لا يزال ملتبساً، بين من يرى أنه أصبح لاغياً، ومطالب بضرورة التمسك به، لأن من ينتمي الى الماسونية يدرك أفعاله، ولا يستحق الانتماء الى الكنيسة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك