في شهر تموز من العام 2017، أقرّ مجلس النواب القانون رقم 46/2017، المتعلّق بسلسلة الرتب والرواتب، فدخل حيز التنفيذ. لم تكن الاوضاع الاقتصادية ومالية الدولة آنذاك في احسن حال، ولو انها اليوم في اسوأ ظرف. الانكماش الاقتصادي كان يظلل السوق المحلي والخزينة قابعة تحت نير العجز المتراكم وفوائد الدين العام القاتلة. قبل ان يشق مشروع قانون السلسلة طريقه آنذاك نحو قاعة الهيئة العامة حيث التقت المصالح السياسية وتقاطعت مع المطالب الشعبية، تحت وطأة ضغط الشارع، بُحَت اصوات الخبراء الماليين والاقتصاديين محذرة من تداعيات وارهاصات اقرار السلسلة على المالية العامة، في ظل ظرف بالغ الدقة، غير ان صوت "المغريات" الانتخابية واثمان حجز مقاعد في الندوة البرلمانية كانت أقوى فتغلب على كل التحذيرات.
تقول اوساط مصرفية لـ"المركزية" ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والهيئات الاقتصادية لم يعدموا آنذاك وسيلة للتحذير من الخطر الذي سيداهم البلاد اذا ما أقرت السلسلة من دون تأمين موارد لتغطية كلفتها الباهظة، وان الحاكم شرح بإسهاب، في سلسلة جلسات عقدها مع كبار المسؤولين في البلاد من اعلى الهرم الى أسفله، ما يمكن ان تقود اليه خطوة من هذا النوع، على رغم احقية السلسلة، واقترح اطارا للحل يقضي بتقسيطها على مدى ثلاث سنوات وتمويلها على مراحل لتتمكن السوق المالية من استيعابها من دون ان تخلّف تداعيات على الاقتصاد المرهق، الا ان أحدا من هؤلاء لم يعر اهمية للتحذيرات، وادار الجميع الاذن الصمّاء، مكتفين بفرض بعض الرسوم والضرائب على المواطن لتغطية جزء يسير من كلفة تمويلها، فأقرت السلسلة وارهقت الخزينة وحلّت الكارثة. وليس ما يحصل اليوم من انهيار اقتصادي الا نتيجة سياسة طمر الرؤوس في الرمال وتفوق المصالح الانتخابية على الوطنية ليدفع القطاع الاقتصادي والمصرفي ثمن السياسات الانانية اللا مسؤولة.
وحينما وقعت الواقعة، خرج اهل السلطة ليحمّلوا حاكم مصرف لبنان تبعات ما اقترفت ايديهم، وما غفلت عنه اراداتهم عن قصد، تضيف الاوساط المصرفية، فرموا كرة النار الى القطاع المصرفي ليتولى مهمة اطفائها. رغم كل ذلك، "عضّ " المركزي" على جرحه" وتأهب حاكمه في مواجهة الازمة فقدم إبان مشاركته في الحوار الاقتصادي- السياسي الموسع الذي عقد في 8 آب الماضي في قصر بعبدا اقتراحاته وتصوره للحل ورُسمت على اساسها خريطة طريق انقاذية بقيت حبرا على ورق، حتى ان لجنة الطوارئ لم تعقد اجتماعا واحدا حتى الساعة. واليوم وازاء ازمة الدولرة التي تعصف بالبلاد راهنا، وُضع سلامة مجددا في دائرة الاستهداف، فمن غيره يمكن ان يحمل وزراً كهذا، تقول الاوساط، جسم "المركزي" لبّيس، وفي التصويب على حاكمه بالحملات السياسية المنظمة والمعروفة الاهداف، اصابة اكثر من عصفور بحجر. يتعامل الحاكم مع الحملات بلا مبالاة، هو يدرك تماما من يشنها ولأي غاية. يمضي في طريق اجتراح الحلول وآخرها تعميم المركزي اليوم، غير آبه بما يحاك في كواليس المصالح السياسية، لكن هل من يسمع؟
تؤكد الاوساط ان لا دور للمصرف المركزي في اي بلد في العالم في ازمات مماثلة، ولا يتدخل في شؤون السوق، كما يُطلب منه في لبنان، تأمين السيولة لشراء البنزين والقمح والدواء. هذه مسؤولية الدولة حصرا، لا المصرف المركزي ولا حاكمه، مسؤولية الحكومة والوزراء والنواب وكل السياسيين الذين اوصلوا البلاد الى قعر الهاوية فيطلبون من المركزي رمي حبل النجاة، وفي الوقت نفسه يستهدفونه. انه بلد العجائب، تضيف الاوساط. السلطة الحاكمة تهرب من الحقيقة والاقرار بأن السياسة التي تتبعها تشكل السبب الرئيسي خلف ما بلغته الاوضاع من بؤس، مرشح لمزيد من المضاعفات اذا لم تغير هذا النهج.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك