إذا ما نزلنا إلى السوق اليوم وسألنا أيّ مواطن لبناني يمتلك 100 دولار عمّا إذا كان يرغب في تحويلها إلى 150 ألف ليرة لبنانية، فسيرفض قطعاً، إذ انّه يعتبر قيمة الـ100 دولار أعلى من قيمة الـ150 ألف ليرة، ولكنه قد يقبل بالتخلي عنها مقابل 160 ألف ليرة.
لن يجد المواطن الذي يجني مدخوله بالليرة ويحتاج إلى دفع فواتيره بالدولار من يبيعه الدولار بـ1500 ليرة؛ الصيرفي يفرض عليه شراءه بـ1600 ليرة. أما المصارف، فنظرياً تحول على سعر الصرف الرسمي؛ وفعلياً، فهي تسعى جاهدة إلى عدم التفريط بدولاراتها.
من هنا نتوقّع زيادة جميع أسعار السلع المستوردة وأسعار السلع المحلية التي تعتمد على مواد مستوردة. فإذا كان سعر المكنسة الكهربائية المستوردة 100 دولار، وكان التاجر يبيعها بـ150 ألف ليرة، فإنّ هذه الـ150 ألف ليرة ستعطيه اليوم حوالى 93 دولاراً، ما يرفع سعر المكنسة الكهربائية إلى 160 ألف ليرة. ولكننا لا نتوقع انقطاع هذه البضائع من السوق ما دام بإمكان البائع تعديل أسعاره لتعكس تغيير سعر الصرف في سوق القطع الشغّال (لا في السوق النظري غير الموجود). ومن هنا يمكننا القول أنّ لبنان غير معرّض لخطر انقطاع الأدوات الكهربائية أو السيارات ما دامت الدولة لا تتدخل وتسمح للتجار بتحديد أسعارها عن طريق العرض والطلب.
أما المواد المسعرة عن طريق تعميم يصدر عن هيئة حكومية، مثل الخبز والمشتقات النفطية والأدوية، فنتوقّع أن تنقطع من السوق مثلما كان يحصل في دول الاتحاد السوفياتي ومعظم الدول الاشتراكية، لأنها تخضع للتجاذبات السياسية. فتجمّع البائعين يجني أرباحاً طائلة على حساب المواطن إذا استطاع إقناع الوزير بفرض سعر مرتفع. أما إذا فرضت الوزارة أسعاراً متدنية، فإنّ البضائع تُفقد من الأسواق، بما يحتّم على المواطن الحصول عليها من السوق السوداء بأضعاف السعر الرسمي. وبطبيعة الحال، يفضّل المسؤولون الخيار الثاني لأنه يسمح بنقل اللوم إلى جشع التجار؛ علماً أن السبب الحقيقي لفقدان المنتجات هو فرض الدولة ضمنياً على التجار شراء دولاراتهم في السوق السوداء على السعر المرتفع وبيع منتجاتهم بخسارة على السعر الرسمي.
أمام خيار رفع الأسعار أو حرمان المواطن من السلع الضرورية، لجأت الدولة إلى مخرج آخر وهو الطلب من مصرف لبنان استعمال احتياطي الدولار لتمويل شراء الخبز والمشتقات النفطية والأدوية. لذا يتركّز الاهتمام حول حجم موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية. بحسب الحاكم رياض سلامة، يمتلك لبنان احتياطاً يناهز 38.5 مليار دولار، بالإضافة إلى 15 مليار دولار من الذهب. ومقارنة بعجز الميزان التجاري الذي بلغ 16 مليار دولار، يكفي احتياطي مصرف لبنان لتأمين حاجات البلاد لأكثر من سنتين. ولكن تقرير وكالة موديز الأخير يدعي أن الـ38.5 مليار دولار تشمل احتياطي المصارف لدى مصرف لبنان. وعليه، فإن صافي ما يمكن استعماله لحماية سعر صرف الليرة يتراوح ما بين 6 و10 مليارات دولار. وتلفت الوكالة إلى أن المشكلة الحقيقية ناتجة عن عجز الموازنة العامة، أي حاجة الدولة إلى التمويل، وتشير إلى أن خدمة الدين العام بالعملات الأجنبية يتوقّع أن ترتفع إلى حوالى 5 مليارات دولار للعام 2020، بالإضافة إلى استحقاق 1.5 مليار دولار في تشرين الثاني 2019.
وبصرف النظر عن صحة ادعاءات موديز، فإن مصرف لبنان لا يمكنه السماح باستعمال مخزون دولاراته لتمويل عجزي موازنة الحكومة والميزان التجاري، وينبغي عليه الاختيار ما بين حلّين أحلاهما مر: (1) تمويل الحكومة وتحرير سوق القطع أو (2) تمويل حاجات الشعب من البضائع الخارجية وفك الارتباط بمالية الدولة. ومن هنا يمكننا القول أن شح الدولار وغلاءه لا يعودان إلى تلاعب التجار أو الصيارفة أو المؤامرات الخارجية، بل إلى إنفاق الدولة المرتفع على الصفقات العمومية والكهرباء وغيرها. فهل تصلح الدولة موازنة العام 2020 وتحوّل عجز الخزينة إلى فائض أم تستمر في إنفاقها المرتفع وتحمّل المواطن التكلفة على سوق القطع الشغال؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك