الخفة والإستعجال اللذان طبعا الورقة الإصلاحية، فضحهما التأنّي في تشريحها. فهذه الورقة حاولت رشوة ملايين المطالبين باستقالة الحكومة، من خلال تضمينها بنوداً جذابة جماهيرياً، كرصد اعتماد بقيمة 20 الف مليار ليرة لتعزيز وتوسعة قاعدة المستفيدين من برنامج دعم الأُسر الاكثر فقراً، وتأمين 240 مليار ليرة لإعادة تفعيل قروض الاسكان، وتخفيض رواتب النواب والوزراء والرؤساء الحاليين والسابقين بقيمة 50 في المئة، وإقرار قانون ضمان الشيخوخة قبل نهاية العام.
كان يمكن لهذه الإجراءات أن تكون أكثر أهمية وفعالية، لو أنها أتت على لسان حكومة تكنوقراط جديدة، تضيف الى هذه البنود عملية إصلاح وحوكمة كاملة للقطاع العام.
إذ إن المشكلة الفعلية لا تتعلق برواتب ومخصصات المسؤولين الحاليين، انما في حجم فسادهم وصفقاتهم. وبالارقام فان كل ما يتقاضاه الرؤساء والوزراء والنواب الحاليون والسابقون يبلغ 47 مليون دولار سنوياً، من أصل مجمل النفقات التي تبلغ 17 مليار دولار، وعليه فان تخفيض هذا الرقم الى 23 مليون دولار، لا يقدم ولا يؤخر.
وبالنسبة الى قروض الاسكان، وبغض النظر عن كيفية تأمين الأموال فهي تكفي لحوالى 800 طلب، في حين أن حجم الطلب السنوي يبلغ 5 آلاف.
أما الـ 20 ألف مليار ليرة لدعم الاسر الاكثر فقراً، فكل الخوف - في حال تطبيقه - ألا تذهب الأموال الى مستحقيها. وبجميع الأحوال "فهو كمن يعطي حبة مسكن لمريض السرطان"، يقول عضو المجلس التنفيذي في الكتلة الوطنية روبير فاضل، ويضيف أن "تقسيم هذا المبلغ على 250 الف لبناني يعيشون بأقل من 6 دولارات يومياً تكون حصة الفرد 48 دولاراً وهو رقم يشكل إهانة للبنانيين".
الأغرب في الاجراءات التي أدرجت في خانة التقديمات الاجتماعية كان الإقرار ببدء تطبيق قانون ضمان الشيخوخة. وذلك في الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن دفع ما يترتب عليها للمستشفيات الخاصة بقيمة الفي مليار. ومستشفياتها العامة تقفل واحدة تلو الاخرى، ويعاني موظفوها منذ أكثر من 18 شهراً من عدم قبض رواتبهم، ويترتب على ذمتها أكثر من 3 آلاف مليار ليرة للضمان الاجتماعي.
مسبّبات العجز... محميّة
في الوقت الذي كان يجب على الحكومة التعامل بجدية مطلقة مع مسبّبات العجز الثلاثة بأكثر من 90 في المئة والمتمثّلة في الكهرباء والدين العام وتخمة القطاع العام، أتت المعالجات أكثر تسطيحاً. فالكهرباء، أزمة الأزمات، عولجت بوضع "العربة قبل الحصان"، فبدلاً من اعطاء الاولوية لتشكيل هيئة ناظمة للقطاع يعين أعضاؤها على أساس الكفاءة بعد خضوعهم لامتحانات مجلس الخدمة المدنية، أقرت الحكومة إقرار المناقصات ومن ثم تشكيل "الهيئة"، كي تأتي الاخيرة منزوعة الصلاحيات. كما أن تمويل الكهرباء سيكون عبر "إجبار" المصارف المحلية بالتمويل وذلك لتخطي الاصلاحات الجوهرية المفروضة في "سيدر". والأكثر إدهاشاً في هذا الملف هو الثقة بتأمين الكهرباء 24/24 في 4 أشهر، فكيف ستتأمن كلفتها إذا كانت من البواخر أما إذا كانت من خلال الغاز "فلماذا لم يبدأ التطبيق قبل 6 أشهر عندما انتهت مناقصة الغاز؟".
تجاهل الوقائع
غاب عن بال الاصلاحيين الوهميين الأزمات المالية والنقدية التي فرضت نفسها على البلد، نتيجة استمرار عجز ميزان المدفوعات بأكثر من 15 مليار دولار منذ العام 2011، والتي بدأت تظهر بفقدان الدولار من الاسواق وارتفاع قيمة صرفه مع عجز واضح في قدرة مصرف لبنان على استمرار دعم الليرة. كما لم تتطرق الاصلاحات الى نتائج الضرائب الكارثية التي فرضت على الاقتصاد ابتداء من العام 2017 لتمويل سلسلة الرتب والرواتب، والتي دفعت في العام 2018 الى أكبر عملية تحويل للمداخيل من القطاعات المنتجة والاسر والافراد الى القطاع العام المترهل. كما أنها لم تحسب أي حساب للإقتصاد المنكمش والذي، وفق كل التوقعات، سيكون النمو للعامين المقبلين سالباً.
ماذا نريد؟
"إذا أردت أن تُطاع أطلب المستطاع"، وهذا ما لم تفعله الحكومة. فمختلف الآراء الاقتصادية والمعطيات العملية تجمع على أن إنزال العجز في أيام من 7.6 الى 0.6 في المئة، و"إن تمّ فهو سيكون عبر تمويل من المصرف المركزي، ما يعني أن الدين الذي سينقص من الدولة سيزداد على مصرف لبنان وفعلياً تعتبر هذه تهريبة وليست خفضاً للعجز"، يقول فاضل، ويتابع: هذا أمر غير منطقي وشبه مستحيل، وأن انعكاساته لن تكون بالضرورة إيجابية.
ما يؤشر على أن كل الوعود هي حبر على ورق من الصعب تطبيقها. "فهذه الحكومة الموسومة بفساد مكوناتها لن تقدر على محاربة الفساد، بل ستستمر في نهج المحاصصة والتقاسم في ما يرضي مصالحهم الضيقة"، يقول فاضل، فبالاضافة الى وهم الارقام فان كل ما فعلته هذه الموازنة هو نقل العبء من الافراد الى مصرف لبنان، وهو ما سيرتدّ قريباً سواء كان بالضغط على العملة أم في نقص السيولة أم في صعوبة الاستيراد وانعدام الاستثمارات على كل المواطنين.
الشعب والخبراء يريدون حكومة تكنوقراط تبدأ باجراءات منطقية قابلة للتنفيذ تحسّن من الاوضاع في الامد القريب وتساهم في الخروج من الازمة على المديين المتوسط والبعيد. وليس هرطقات تقنية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك