انطلًاقا من أن القدرة التنافسية للبلدان في عصر العولمة باتت مفتاح النجاح والتفوق الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى، لا بد من تركيز الحكومات على الحفاظ على تنافسية اقتصادها عبر تعزيز الاستثمارات في القطاعين العام والخاص. وبحسب علم الاقتصاد، تشكل المدخرات التي يجمعها القطاعان معًا على المدى الطويل الحد الأقصى للإنفاق الاستثماري المتاح دون اللجوء إلى الإستدانة. فالدولة التي لا تدخر لا تستثمر إلا عبر تحمل الدين، ولا يكون نهج الاستدانة بهدف الاستثمار نهجا ناجعا الا إذا اثمرت الاستثمارات عائدات تسمح بخدمة الدين وتسديد أصوله. إن استثمارات القطاع العام في مجالات مثل البنى التحتية والتعليم والضمان الاجتماعي والبيئة والرعاية الصحية والدفاع تفعّل استثمارات القطاع الخاص وتعزز مستوى عائداتها مما يؤدي إلى ارتفاع عائدات الدولة عبر النمو والضرائب. وكلما تراكمت الأرباح، ارتفع معدل الاستثمارات التي تزيد بدورها نسبة النمو والعائدات.
الحلقة المدمِّرة
لقد فشل النموذج الاقتصادي للبنان في خلق الحلقة المستدامة المذكورة أعلاه، وأدى انتشار الفساد والهدر والزبائنية والحوكمة الضعيفة على مدى عقود الى معدلات إنفاق تفوق مدخرات الخزينة، مما أدى الى تراكم الديون، التي استُخدمت بدورها لتغذية المزيد من الاستهلاك بدلا من الاستثمار. ومع شبه انعدام عوامل التمكين لتطوير أنشطة القطاع الخاص، حصر هذا الأخير معظم استثماراته في الودائع المصرفية التي ولدت مالا سهلا غير منتج. وفي حين أن المصارف تديّن الدولة، استُخدمت هذه الأموال كقروض للدولة، مما أدى الى انخفاض مستويات الاستثمارات. ونتيجةً لانخفاض مستوايات الإستثمار، انخفضت العائدات، مما أدى الى مستويات أعلى من الديون- باختصار: حلقة مدمرة اهدرت الدولة خلالها الموارد فيما انبرى القطاع الخاص "يستثمر" بالهدر.
لقد حتم هذا النظام الاقتصادي الهش وصولنا الى الظروف العصيبة التي نعيشها اليوم، والتي تنذر بالانهيار.
إنّ محاولات التنبّـؤ بموعد الانهيار والتهويل به لن تجدي نفعاً، لأن الانهيار آتٍ لا محال ما لم يتم إصلاح النموذج الاقتصادي قبل فوات الأوان، فهل لا يزال التغيير متاحًا؟
بين معضلة مالية الدولة ومعضلة ميزان المدفوعات، تعارض في الحلول
يكمن التحدي في أنّه لدينا مشكلتين مختلفتين: معضلة مالية الدولة من جهة، ومعضلة ميزان المدفوعات من جهة أخرى. معضلة مالية الدولة تكمن في عجزها المالي والديون العامّة المرتفعة. أما معضلة ميزان المدفوعات فتعود إلى أن لبنان دولة تستورد أكثر مما تصدّر، ممّا يؤدّي إلى تدفّق العملة الصعبة خارج البلاد. فبينما إصلاح العجز في ماليّة الدولة يُلزمها بالتقشّف من ناحية، إلّا أنّ إصلاح ميزان المدفوعات يحتاج ، من ناحية أخرى، إلى الإنفاق الاستثماري لتمكين الدولة من استقطاب رؤوس أموال توظّف في مشاريع ذات أمدٍ طويل، وذلك للتعويض عن تدفق العملة الصعبة إلى الخارج. ومن هنا، إذ تتعارض حلول كلتا المشكلتين، لأية منهما أولوية المعالجة؟
الأولوية لمعالجة مشكلة مالية الدولة
بما أنّه يستحيل أن تتدفّق رؤوس الأموال إلى الوطن في ظل فقدان الثقة الناتج عن تفاقم العجز في ماليّة الدولة، ينبغي المباشرة في معالجة هذا العجز أوّلًا لطمأنة المستثمرين. إنّ الحلول لمُعضلة عجز ماليّة الدولة أمسَت معروفةً وقد توافقت على مُجملها الأطراف السياسية في الداخل والمؤسسات الدولية جمعاء. فهي تشمُل تقليص الدعم لقطاع الكهرباء، وتحسين التحصيل الضريبي، وتفعيل الحماية الجمركية، وتخفيض مصاريف تشغيل الدولة، وغيرها من الإجراءات القصيرة والمتوسّطة المدى. غنيّ عن القول، طبعًا، أنّ العبرة تبقى في وجود الإرادة والقدرة على التنفيذ.
المعالجة المستدامة لمشكلة ميزان المدفوعات
أمّا مواجهة المشكلة الثانية - مشكلة العجز في ميزان المدفوعات - فهي أكثر تعقيدًا، وتستغرق وقتًا أطول، وتنطوي على العديد من المخاطر، جيوسياسية كانت أم خاصّة بلبنان. والمطلوب هنا هو جذب رؤوس أموالٍ طويلة الأجل، في شكل استثماراتٍ أجنبية مباشرة، وبالتالي ضخّ أموالٍ يصعبُ أن تعودَ أدراجها ما أن تتزعزع الأوضاع.
أ- التعويل على "سيدر"
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ الآمال المعلّقة على مؤتمر "سيدر" باعتباره يؤمن علاجا سحريا وسريعا لمعضلة ميزان المدفوعات ليست واقعية. فالعملة الصعبة التي سيوفرها هي أساسا ديون (وإن بفوائد مخفضة)، بالإضافة الى أن حصة الأسد منها سوف تعود وتخرج من لبنان لاستيراد المعدات والمواد الأولية المستلزمة لتنفيذ مشاريع "سيدر”. أن ما يؤمنه "سيدر" عبر القروض المدعومة، يعود إلى إيجاد توازن بين الحاجة للتقشف (لمعالجة عجز مالية الدولة) من جهة، والانفاق الاستثماري الرامي الى تحسين البنى التحتية وبالتالي تعزيز قدرة لبنان التنافسية ، من جهة أخرى. ولكن، هل يخفى على أحد أن بناء القدرة التنافسية في عصرنا هذا يتخطى مجرد تأمين البنى التحتية الفعالة؟
ب- رحلة الألف ميل
يتطلب بناء القدرة التنافسية تخطيطا استراتيجيا هادفا يحدد القطاعات والمجالات التي تتلاءم وميزات الوطن التنافسية الواعدة، ويشمل تأمين التمويل الحكومي لأنشطة البحث والتطوير، وإصلاح النظام التعليمي لجعله أكثر تخصصا في المهارات التي يتطلبها النمو الاقتصادي. وقد تنبع القدرة التنافسية في لبنان من الأجور المنخفضة في مجالات معينة أو من مخزون بشري خلاق في مجالات أخرى. لقد حدد تقرير"ماكينزي" عدة قطاعات يمكن للبنان أن يبرع فيها وهي تتضمن القطاع السياحي، وخدمات الاعمال التجارية والخدمات المالية، وبعض الصناعات كالأدوية والنبيذ، كما تصميم الأزياء والمجوهرات التي لطالما وتميّز لبنان فيها. إن التسريع في التخطيط الحكومي من اجل مساعدة هذه القطاعات للنهوض والازدهار واجب، وخصوصا لأنه يقع تحت سيطرة الداخل، خلافا لما يقع خارج ارادتنا من متطلبات لإرساء القدرة التنافسية، كتدنّي المخاطر الجيوسياسية ومستويات أسعار الطاقة في السنوات القادمة.
وفي هذا السياق، ازدادت مؤخراً الآمال المعلقة على قطاع النفط والغاز. إنما هذا القطاع لن يولّد عائدات للخزينة قبل سنين بعيدة، حتى إذا افترضنا أنه سيكون مربحا آنذاك. لذلك إنه من الحري بنا أن نباشر فورا في تنفيذ الخطوات الآيلة الى تطوير القطاعات الواعدة المذكورة أعلاه لنؤمن التنوع في اقتصادنا و لئلا نستبدل إدمان اقتصادنا الحالي على استقطاب الودائع بإدمان مستقبلي على موارد الطاقة بأسعارها المتقلبة. وكم من دولة غنية بمواردها في أميركا اللاتينية وأفريقيا تعاني من القلة والاقتصاد غير المستقر - داء يعرف في علم الاقتصاد بٍ"المرض الهولندي".
من الاسعافات الأولية الى تغيير نمط حياتنا
وبالعودة إلى الإشكالية الأساسية، إذا كانت الخطوات المرجوّة لحلّ مشكلة عجز ماليّة الدولة معروفةً، فما عسى الخطوة الأولى تكون لحلّ معضلة ميزان المدفوعات؟ قد يأتي الجواب مفاجئًا للبعض: إنّ التقنين في تأمين الدولار لاستيراد السلع غير الضرورية وبالتالي السماح بسعر صرف موازٍ للدولار (أعلى من سعر الصرف الرسمي)، من شأنه أن يُضعِف القدرة الشرائية عمومًا ويقلّص حجم الاستيراد ومعه تدفّق العملة الصعبة خارج لبنان.
لقد أصبنا في خطوة الاسعافات الأولية المؤلمة هذه (تقنين الدولار)، وبينما نحن ماضون إلى غرفة العناية الفائقة، "نتطلّع" إلى المزيد من الألم الذي لا بديل عنه (أقصى درجات الضبط لمالية الدولية). أما المضي في تغيير جذري في نمط عيشنا (تحوّل نظامنا الاقتصادي وميزان المدفوعات الناجم عنه)، فيتعين علينا أن نباشر فيه فورا ، وإلّا نكون قد أذعنّا لتمديد الحقبة التي نعيشها من "عقد ضائع" إلى "قرن ضائع".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك