لحظة مفصلية يشهدها لبنان لا بدّ من ان تطبع مستقبله لعقود. الأزمة الداخلية بلغت عقدة تبدو مستعصية. لعبة صفرية، أي مكسب فيها للاعب، يُحتسب خسارة للآخر. الشعب في الشارع يرفض مغادرته قبل تحقيق مطالب سقوفها عالية جداً، وهذا أمر مفهوم. والسلطة تقبع على كرسي تخلخلت أرجله، لكنها تتمسّك بنفسه، حكومة ومجلساً، بلا أدنى تنازلات. وبين هؤلاء وأولئك قد يضيع البلد فلا تبقى سلطة، ويتداعى الشعب، ويخسر الجميع الجمل بما حمل.
الطرفان مشغولان، كلٌ من موقعه، بالدفع نحو الأقصى، تحقيقاً لأهدافه. الناس تريد رغيف الخبز، وكرامة العيش. والحكم حفظ البقاء والمكاسب. لا بدّ من الاعتراف أنّ الجانبين فاجأا، خلال الأيام السبعة الماضية، بعضهما البعض. الشعب لم يغادر الساحات تحت وقع ما عُرفت بـ»الورقة الإصلاحية»، بصرف النظر عن موقفنا منها. ولا المسؤولون اعتزلوا المناصب وعادوا إلى منازلهم.
غير أنّ المخاطر التي تتهدّد الوضع، ولا من يلتفت لها، لا بدّ من أن تجبر الطرفين على التعقل، وأبرزها ثلاثة:
الأول، خطر انهيار المصارف، المقفلة أبوابها منذ أيام، ومعها ودائع الناس. هل هناك من فكّر مليّاً ماذا يمكن أن يحصل يوم تعيد فتح أبوابها؟ هل يستطيع أحد أن يتخيّل الناس أفواجاً أفواجاً على صناديقها تطلب سحب ودائعها، أو تحويل ما بالليرة منها إلى دولار؟ هل يعلم الشعب إلى أين يمكن أن يؤدي سيناريو من هذا النوع؟ أي مصرف، مهما بلغت قوته وملاءته، لن يستطيع الصمود، حتى في الظروف العادية، أمام هجوم كهذا، سواء حصل لأسباب طبيعية أو تحت وطأة مؤامرة (كما حصل مع بنك «انترا»). السبب بسيط. أكثر الودائع تكون موظّفة عادة في تسليفات، إمّا لتجار أو مطورين عقاريين أو لزبائن لدواعٍ مختلفة.
ففي ظرف كالذي يشهده البلد، حيث أدرك الناس أنّ اغلب أموالهم أهدرتها طبقة سياسية فاسدة تسعى حتى اليوم الى شرب قطرة الدم الأخيرة في الجسد اللبناني، سيكون الهجوم على المصارف محرّكه الهلع والخوف على جنى العمر. حال لا يستطيع أي نظام مصرفي في العالم أن يصمد أمامه. من هنا يجب المبادرة سريعاً إلى اتخاذ قرار بعدم فتح المصارف إلّا ضمن خطة طوارئ تعتمدها البنوك جميعها، بتعليمات من المصرف المركزي، مع إجراءات ردعية تمنع أي مؤسسة مالية من مخالفتها تحت سقف الإغلاق. خطة لمنع خروج الأموال والحد من تحويل العملة المحلية إلى دولار، إلى أن يستقيم الوضع. وكل تأخير يتيح فرصة لحيتان المال لتحويل ثرواتهم إلى الخارج، وهناك الكثير من الشائعات في هذا الصدد.
أما الخطر الثاني، الذي لا يستطيع أحد أن يتغاضى عنه مختبئاً خلف اصبعه، هو حقيقة وجود شريحة واسعة من المجتمع اللبناني تعتبر أنّها بذلت تضحيات ضخمة، في سبيل قضايا تراها وجوديّة. شريحة لديها هواجس بأنّ ما فشل أعداؤها في تحقيقه بعد انتصار عام 2000 وحرب عام 2006 والحصار والعقوبات والهجوم عليه من الخاصرة السورية، يريدون تحقيقه من خلال إفلاس البيئة الحاضنة. شريحة لن يرضى ممثلوها بأي تعديل في بنية الحكم لا تأخذ خلاله ضمانات للحفاظ على شرعية وجودها وديمومة كفاحها.
خطران، وإن ظهرا من حيث الشكل منفصلين عن بعضهما البعض، إلاّ أنّهما مترابطان عضوياً في الجوهر. أي دعم غربي للبنان يرجّح ان يكون مشروطاً بإجراءات تستهدف الفريق المهجوس بالخطر الثاني، وهذا ما قد يدفع بالبلاد نحو الخطر الثالث: شارع في مقابل شارع، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية الصدام والدخول في المجهول.
لا نتحدث عن شبح عام 1975. حتى اليوم لا يوجد طرفان لحرب، كما حصل في السبعينيات والثمانينيات المشؤومة. نتحدث عن جوع، بعد أن يعجز البلد عن استيراد الغذاء والدواء. وعن ترهّل أمني، يُفلت الشوارع وعقالها، فتخشى العائلات على أولادها حتى من مغادرة المنزل. عن دوامة يمكن تلمّس بداياتها، لكن أحداً لا يستطيع التنبؤ بمآلاتها.
من هنا، لا بدّ للعقلاء من الطرفين أن يُمسكا بزمام المبادرة. لا مخرج إلّا بحلٍ يطمئن الجميع، يُبنى على معادلة رابح - رابح. أي خيار آخر لن يبقي على البلد ولا على من فيه. استمرار الوضع القائم سيقود حتماً إلى الانهيار، وانتصار فريق على آخر لا يمكن صرفه إلّا في «كانتون المنتصر» فيكون لبنان قد ضاع والفوضى قد عمّت.
وعليه، لا بدّ من التنبيه إلى محورية دور المؤسسة العسكرية، ونقصد الجيش تحديداً، في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلدنا. دور يتطلب دقة ومسؤولية عالية في التعامل معها من قبل جميع الأطراف. السلطة يجب أن تحرص على ألّا تطلب منه ما يعجز عنه ويتهدّد وحدته. والشارع يجب ألا يعمل على استدراجه إلى الصراع، ويمنع أي محاولة لإدخاله طرفاً فيه. أما الإعلام، فلا بدّ من أن يكون حريصاً على هيبته وعلى معنويات ضباطه وجنوده. هو اليوم الملاذ الأخير القادر على حفظ الأمن منعاً للفوضى... وعودة الميليشيات.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك