مساء يوم 17 اكتوبر كان نقطة مفصلية في تاريخ لبنان، عندما هبّ اللبنانيون إلى الشوارع والساحات منتفضين على أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بلغت أسفل دركها. فأذهل اللبنانيون أنفسهم قبل أن يذهل العالم. قبل دقائق من الحدث كان كل شيء يشير الى أن الحكومة هي اسعد الحكومات في العالم، وبمقدورها ان تفعل ما تريد وهي مطمئنة، فلا معارضة تؤرقها، ولا شعب قادر على ردعها، ولا ظروف خارجية مؤاتية لمراقبتها ورصدها.
غير ان اللبنانيين انتقلوا برمشة عين من زمن «الانتصارات الالهية» إلى الزمن العادي، حيث يقال الكلام عارياً من دون أي اعتبارات سياسية أو اجتماعية. كلام جارح وساخر ومبتذل لكنه خارج من عمق القهر والظلم. في تاريخه الحديث، شهد لبنان انتفاضة مليونية عام 2005 قامت على عناوين سياسية تصدرها مطلب استرداد «السيادة والحرية والاستقلال» رفضا للوصاية السورية، الا أنها سرعان ما انتكست وتشتتت عناوينها بفعل عوامل محلية واقليمية عديدة ليعود اللبنانيون الى خيبتهم واحباطهم من امكانية حدوث تغيير.
وبعد 14 عاما على ثورة الارز يكاد المشهد في لبنان يكون انتفاضة مضادة لانتفاضة 2005، فهي في احد وجوهها انقلاب على الأحزاب، وعلى القوالب الطائفية والزعاماتية. وهنا مكمن خطرها على الزعامات التي اعتادت رؤية الناس في الساحات يتظاهرون تأييدا لها وليس احتجاجا ضدها. الصورة النمطية التي ترسخت في رأس الطبقة الحاكمة، هي الصورة نفسها التي عزم اللبنانيون أخيرا على كسرها. فالكارتيل السلطوي بشقيه القديم المتجذر والوافد الجديد تماهى في تصلبه وتشبثه بالسلطة. حتى أولئك الزعماء الذين هللوا للثورات العربية، بدرجات متفاوتة، استفاقوا على مخاوف لطالما سخروا منها في الربيع العربي، فتساءلوا: ما البديل عن اسقاط النظام؟ محذرين من الغرق في الفوضى، ومنبهين الى مؤامرات ودعم خارجي وتمويل مريب.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك