زرت عدة ساحات وأماكن تجمّع للمتظاهرين، لسببين أولهما التضامن مع المطالب المحقة، ورغبتنا جميعا في التخلص من الطبقة الحاكمة الفاسدة بمعظمها، وثانيا لأواكب عن كثب واستمع إلى أفكار الشباب، الفئة العمرية الطاغية في ساحات الانتفاضة.
هذه الفئة مدهشة في تصميمها وعزمها وإرادتها، ومفاجئة لمن اعتقد يوما مثلي أنّ هذا الجيل "مش طالع من أمرو شي" وهو جيل تائه لا يعرف ماذا يريد، وهو ضحية حروبنا المتتالية وصراعاتنا، وأنه أيضا جيل عاجز ولا قدرة له على التغيير، كونه أسير قناعات أهله ومحيطه وبيئته. هكذا ظننت، والكثيرون مثلي من جيل الحرب اللبنانية أن شبابنا وأولادنا همهم فقط تمضية الوقت بين مقاهي النرجيلة والنايت والبلاي ستايشن والسهر مع الـ "الكراش"، وأن همومهم صغيرة ليست بحجم مشاكلنا في هذا الوطن ومعاناتنا، وأنهم إن تململوا يوما أو شكوا، فإن شكواهم هي من "الزهق" أو من عدم حصولهم على مصروف "الكزدرة" بشكل كاف من ذويهم، أو حتى من عمل بعضهم بشكل جزئي لسد مصاريفه ومساعدة أهله.
كنا نظن أن هذا الجيل لا يهمه التغيير وغير قادر على قلب الطاولة وتغيير المعادلات، وأنه جيل ابن الـ"مامي" والـ "بابي" حتى أتى التحرك او الانتفاضة الأخيرة لتقلب الطاولة، ولكن هذه المرة على أفكارنا ومعتقداتنا تجاه هؤلاء الشباب والشابات.
كلمة حق لإنصاف هذا الجيل لا تكفي بل يصح ان نعتذر منهم، وأن نكافئهم بالتصفيق لهم بدلا من وضع العصي أمام طريق ثورتهم. هذا الجيل الذي ولد على سرير الطائفية وشرب حليبا فاسدا ونما على انتماء أعمى لزعماء فقط لأن عائلته تتبع وتبخّر لهذا الوزير أو النائب أو الحزب، وأن عليه أن يسلك طريق الضلال نفسها ليعيش ويأكل ويتعلم ويتوظف بالواسطة فيما بعد. هذا الجيل الذي لم نعلمه المواطنية الحقة، ولم نثقفه بعيدا عن لغة كتب التربية والتاريخ المشوهة، هذا الجيل الذي أورثناه مفاهيم خاطئة أقلها أن حب الزعيم أهم من حب الوطن، والتبعية للحاكم هي ضمانة، والهجرة هي حلم الفقراء والمهمشين في هذا البلد.
اليوم وكما نقول بالعامية "كبر قلبنا" بهؤلاء الشباب والشابات الذين ملأوا الساحات يجاهرون بما خفنا نحن جيل الحرب من المجاهرة به. ها هم يسمون الأشياء باسمائها ويشيرون إلى الفاسدين من دون خوف ويطلقون شعارات لا تستثني أحدا من المحاسبة والمحاكمة ويخرجون من مناطقيتهم وجغرافيتهم وأعلامهم الحزبية ليتلاحموا مع رفاقهم في كل الساحات، من طرابلس إلى صور إلى بيروت إلى صيدا والنبطية وجل الديب والبقاع، وكل لبنان... مشاعر كثيرة تنتابنا نحن جيل الحرب ونحن نتابع تحرك وانتفاضة الشباب بين الفخر والأمل والتعجب والغيرة... نعم الغيرة من عزمهم وإرادتهم وإصرارهم وثقتهم ووعيهم وجرأتهم (ولن أتطرق إلى قلة تشوّه مسارهم من الشباب الطائش).
نحن تأخرنا وأيضا خشينا وخفنا ولم نكن قادرين على قلب الطاولة، وسمحنا أن يتحول هذا الوطن الى مزرعة، وأن تحكمنا أكثرية فاسدة، وأن يقال عنا شعب "غنم" حتى صدقنا وبتنا نحن نصف أنفسنا بالغنم.
لهؤلاء الشباب ولأولادنا نقول اليوم: لا تسمحوا لأحد بأن يستعمل ثورتكم وانتفاضتكم لأهداف دنيئة، ولا تدعوا أحدا يفرّق بينكم، ولا تفسحوا المجال للمخربين أن يشوهوا مسار تحرككم. ابقوا مسالمين لا عنفيين ولا تبعيين، واطردوا عبارات الشتيمة من قاموسكم كي لا تستعمل سلاحا ضدكم...
كونوا نموذجا للثائرين الأنقياء في نظافة ساحاتكم وقلوبكم، ولا تقبلوا على غيركم ما لا ترضوه لأنفسكم. ابقوا على عنادكم لإخراجهم من قصورهم وتسلطهم على رقابكم، وكونوا خارطة الطريق التي ضللنا نحن الطريق إليها. لقد تمكنتم من فعل ما عجزنا عنه طيلة 30 عاماً. نفخر بكم ونخاف عليكم، لأنه لم يتبق لنا الا أنتم مشعل الحق ونواة التغيير وقلب الوطن الثائر ... نحبكم جدّاً جدّاً جدّاً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك