تروي امرأة لبنانية ثلاثينية أنّها غادرت العاصمة بيروت باتجاه الأحراج المنكوبة بعد حرائق لبنان الموجعة، باحثةً فيها عن أمل أخير للحياة في بلد بُترت فيه يدُ الأمل بسيف لعين بمئة حدّ.
وما أن قضت نهارها باكيةً فوق رماد صنوبر لبنان، حتّى رأت الدخان يتصاعد من زوايا لبنان كافة، فصرخت "ويلاه، اشتعلت المدينة أيضاً"، فباغتها صوت رجل جالس على صخرة مرتفعة قائلاً، "لبنانهم يشتعل، أمّا لبناني فيولد كالفينيق من تحت الرماد".
استوقفته السيدة قائلةً: "من أنت، وكيف لك أن تكون هادئ البال وبيروت تحترق"، فانتهرها صائحاً: "بيروت كامرأة يمتلكها كلّ البشر، وكالموت تتغلّب على كلّ البشر، وكالأبدية تضمّ كل البشر"، وأكمل متحمّساً: "عودي الى بيروت، انضمّي الى الثوار وسلّميهم رسالتي فنعيد الحياة سوياً الى لبنان".
وبعد أن رحّبت بطلبه، راح منشداً:
"أيّها اللبنانيون الثائرون في الشوارع، إنّ لبناني يزهر اليوم بالأعلام اللبنانية التي ترتفع فوق كلّ علم ابتُدع بأيادٍ ظالمة فرّقتكم وزرعت الكراهية والحقد بينكم. وأنتم تثورون، تذكّروا الجلول الوعرة التي حوّلها آباؤكم الى بساتين مزهرة، وأمّهاتكم اللواتي جمعن الأغمار وغزلن الحرير لتبقوا أنتم… إنّ الأكواخ الصغيرة التي ولدتم فيها، تبني اليوم بشجاعتكم وثورتكم قصور حريّة لن تتغلّب عليها الرياح الكانونية. أنتم اللبنانيون الذين تعودون الى لبنان وأكاليل الغار على رؤوسكم. أنتم الذين تتغلّبون على محيطكم أينما حللتم. أنتم الذين تجتذبون القلوب إليكم أينما وجدتم. أنتم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال".
توقّف الرجل الأربعيني عن الكلام هنيهة، ثمّ عاد ليخاطب السيدة، ولكن بصوت مثقل بأوجاع كثيرة، وقال:
"أمّا أنتم الطغاة الساكنون في القصور المرصّعة بصرخات الشعب، ماذا فعلتم بلبناني؟ جزّأتموه الى طوائف وأحزاب، أثقلتموه بخطابات ومحاضرات ومناقشات، زيّفتموه بالكذب والتصنّع. أنتم أسياد العبودية التي تجعل أيّام شعبكم مكتنفة بالذلّ ومغمورة بالدماء. وثّقتم حاضرهم بماضي أجدادهم فجعلتموهم أجساداً جديدة بأرواح عتيقة وقبوراً مكلّسة. جعلتم حياتهم بمنزلة النعل من القدم. جعلتم أصواتهم كرجع الصدى. سلّمتم قوّتهم الى أهواء الطامعين بالمجد والاستشهار فحوّلتموهم الى آلات تحرّكها الأصابع، ثمّ توقفها، ثمّ تكسرها. جعلتم حاجاتهم تقطن قرب الغباوة، فحوّلتم الاحتيال الى ذكاء والثرثرة الى معرفة، والضعف الى قوّة، وحرّكتم بالخوف ألسنة الضعفاء، فتكلّموا تحت قبضتكم بما لا يشعرون وتظاهروا بأعلامكم بما لا يضمرون. نعم، أنتم عبيد العبودية. قدتم قومكم بشرائع قوم آخر. وتوّجتم أبناء الملوك ملوكاً".
تنهّد قليلاً وتابع: "أيّها المسؤولون، نشفق على صغاراتكم، وأنتم تكرهون عظمتنا. نبني لكم القصور وأنتم تحفرون لنا القبور. تغلبوننا ساعة، فنغلبكم دهور".
وبعد سكون عظيم، قام الأربعيني ليرحل فرحاً، فسارعته المرأة سائلةً: "قل لي من أنت؟". فصمت الرجل النبيّ مرّة أخرى، وتنهّد مبتسماً: "أنا هؤلاء الثوار من طرابلس الى صور مروراً ببيروت وجل الديب والنبطية وجونيه. أنا هم، وهم أنا، ونحن الحياة التي لا ترجع الى الوراء ولا تلذ لها الإقامة في منازل الأمس".
وحينئذٍ، حيّاها مودّعاً، وهمس بصوت عذب: "سلّمي رسالتي الى الشعب، وليوصلها بصوته وثورته... من جبران خليل جبران الثائر، الى حكّام لبنان الذين حوّلوا كلّ شبر فيه الى أمّة".
(الصورتان مختارتان من حسابي mswr و nicolas tawk عبر موقع إنستغرام)
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك