بعيدًا من السجالات السياسية، وإنطلاقًا من أحكام الدستور ونصوصه، وتأسيسًا على المبادئ التي ترعى النظام البرلماني وقواعده، والقائمة على الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، فمن الثابت أنّ تشكيل الحكومة في لبنان، يمّر في أربع مراحل تتكامل ويترابط بعضها ببعض، فلا إنقطاع فيها، ولا يمكن تجزئتها، أو الخلط بينها، أو تقديم مرحلة على أُخرى، لغاية في نفس يعقوب، أو لإمرار صفقة مشبوهة بتوزير «زيد أو عمر» من الأفراد أو الشخصيّات أو المقامات، بحيث تؤدي كل سُلطة من السُلطات الدستورية خلالها، دورها الكامل، وفقًا لأحكام الدستور، وتطبيقًا لمبادئ النظام البرلماني، في مناخ من التعاون والإحترام المتبادل، بهدف تحقيق الخير العام، والإلتزام المُطلق بالمصلحة العامة.
أولى هذه المراحل تبدأ، بالإستشارات النيابية المُلزمة.
نصّت المادة 53 من الدستور (البند 2) على أن يُسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المُكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب، إستناداً إلى إستشارات نيابية مُلزِمة، يُطلعه رسميًّا على نتائجها.
بالتالي، وفي مرحلة أولى، يُبدي النوّاب آراءهم، ويُدلون بخَياراتهم، وتنتهي مهّمتهم بتسمية رئيس الحكومة. حيث يُصدر رئيس الجمهورية مرسومًا بتكليف مَن سَمّته الأكثرية النيابية، بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب، عملاً بأحكام (البند 3) من نَصّ المادة 53 من الدستور.
وفي المرحلة الثانية، تَبدأ مهمّة رئيس الحكومة المُكلّف.
فيُجري إستشاراته النيابية غير المُلزمة، ويتواصل مع الكتل المختلفة، ويتداول معها في شأن تشكيل الحكومة، ويَطّلع على آرائها، ويَستَمِع إلى مطالبها، ويَعمل على التوفيق في ما بينها، وعلى تذليل الصعاب، دون أن يكون مُقيّدًا بها.
كذلك، يبقى على إتّصال برئيس الجمهورية، لإطلاعه على الأجواء والمطالب والصعاب.
وفي الختام، يَضع الرئيس المُكلّف تصوّراً للحكومة، بإعتباره رئيسًا لها، ومسؤولاً عن أعمالها أمام مجلس النوّاب. ويقترحها على رئيس الدولة، تمهيدًا لإصدار مرسوم التشكيل. مع الإشارة، إلى حق رئيس الجمهورية في قبول هذه التشكيلة، أو طلب تعديلها، أو رفضها.
وفي المرحلة الثالثة، يَصدر مرسوم التشكيل (البند 4 من أحكام المادة 53 من الدستور)، مُذيّلاً بتوقيع رئيس الدولة ورئيس الحكومة المُكلّف.
وفي المرحلة الرابعة، يَمنَح مجلس النوّاب الثقة للحكومة، عملاً بأحكام الفقرة الثانية من نصّ المادة 64 من الدستور.
وبذلك، ينتهي مسار تشكيل الحكومة من الناحية الدستورية. مع التأكيد، على وجوب إنجاز كلّ مرحلة بمرحلتها، بالتتالي، دون الخلط بينها، أو شبك مرحلة بأُخرى، وإلاّ نكون قد خَرقنا الدستور، وأطَحنا المبادئ العامة التي تَرعى النظام البرلماني وقواعده، وضَرَبنا عَرض الحائط بمبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، وصادَرنا صلاحيات دستورية محفوظة بمُقتضى الدستور ونصوصه.
وبالتالي، ما يَجري راهناً لناحية خلط التكليف (المرحلة الأولى من الآلية) بمرحلة التأليف (المرحلة الثانية من الآلية) لا يَستَقيم دستوراً، ويُشكّل مخالفة فاضحة، وسابقة خطيرة، وتعدّياً موصوفاً على صلاحيات رئيس الحكومة المكّلف.
كذلك، إشتراط توزير أي امرئ في الحكومة، أو أي فئة، أم تكتّل، وإستبعاد سواه، قبل الإفراج عن مرسوم التكليف، لا يستقيم دستوراً. كون التشكيل من مسؤولية وصلاحية رئيس الحكومة المكّلف، بالإتفاق مع رئيس الدولة.
مما يقتضي معه، على رئيس الدولة، الذي هو رمز وحدة البلاد، والساهر على إحترام الدستور، ولاسيما أنّ المادة 49 من الدستور جَعَلَت منه، الحَكَم والحارس للدستور والضامن له. الإستعجال في بَدء الإستشارات النيابية المُلزِمة، لتكليف مَن يَلزَم لرئاسة الحكومة، وعدم ترك الوضع اللبناني مكشوفاً، دون حكومة يُمكنها أن تجتمع وتُقرّر وتُمسِك بزِمام البلاد والعِباد.
فصحيح، أنّ الدستور لم يُحدّد مهلة لرئيس الدولة لمُباشرة الإستشارات، ولكن الصحيح أيضاً، أنّ رئيس الدولة مؤتمَن على وحدة لبنان، وسلامة أبنائه.
سيّدي الرئيس،
بادِر وبكُلّ جُرأة، إلى عَدَم السَّماح للطبقة السياسية بالتلاعب في أحكام الدستور، تحقيقًا لمَكاسِب لا أكثر ولا أقّل.
بادِر وبكُلّ جُرأة، إلى الإستماع إلى أنين أبنائك في الشارع، ولا تُصدِّق مَن يُفيدك أن الثورة قد خَمَدَت، إنما الثورة تترقّب، ما ستحمله لها الأيام، وسَيَنفَجِر الشارع.
سيّدي الرئيس،
لا تَسمَح بخَرق الدستور، فالتكليف أوّلاً ثمّ التشكيل، ولا تنسى أنّك الحَكَم والضامن والحارس للدستور، والمؤتَمَن على إحترامه. ولا يَجوز تقديم مرحلة التشكيل على التكليف، كذلك الخَلط بينهما.
لا تَسمَح للطبقة السياسية أن تتذاكى وتلتّف على مطالب المتظاهرين، بتشكيل حكومة تُسمّيها «بالتكنوقراط»، فيما هي في الواقع، ليست إلاّ حكومة مستشارين ومُلحَقين وتابعين... كذا.... فذلك سيُفجِّر الشارع وسيَزيد النَقمة.
لا تَسمَح للطبقة السياسية بالإلتفاف على الدستور وعلى أحكامه، بإبتداع سوابق، ستؤدّي حُكماً إلى نَسف الدستور وأُسُسه، وستُسقِط الهيكل على مَن فيه.
مع التذكير وأخيراً، بما قاله الفيلسوف «أرِسطو»:
«الدولة الصالحة هي التي يكون فيها الدستور هو السيّد الأعلى، ويسير على مبادئه الحاكم».
فأينَ نحن مِن أرسطو؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك