يومٌ جديد من عُمرِ الثورة اللبنانية التي انطلقت في 17 تشرين الثاني الماضي، بدأ على وقع اشتباكاتٍ بين الجيش والثوار، بعدها نجح الأوّل في فتح عدد من الطرق المقطوعة بالمتاريس والدواليب وغيرها، في بيروت والشمال والجنوب وجبل لبنان وصولاً إلى البقاع. ثورة وحدت مئات الآلاف من الثوار على مجموعة من الشعارات المطلبية، وحتى اليوم لم تتضمن هذه الثورة علامات طائفية أو أعلاماً لأحزاب سياسية رافعين علماً واحداً تتوسطه الارزة، ومعه مجموعة كبيرة من الشعارات التي أكدوا عدم التراجع عنها حتى تتحقق مطالبهم. هذه الثورة التي خلعت ثوب الطائفية، والتي تعد من أكبر الاحتجاجات في لبنان منذ عقود، شهدت تحولاً في الشعارات التي أطلقها المحتجون بدأت بمطالبات لتغيير سياسات الحكومة لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية ومن الفقر والبطالة والفساد المستشري، باتت بعدها تطالب باستقالة الطبقة الحاكمة تحت شعار " كلّن يعني كلّن " وبالنأي عن الطائفية والعيش بكرامة وتحقيق العدالة الاجتماعية، فهل ستؤدي هذه الشعارات الى إعادة بناء الدولة من جديد؟ وماذا عن بعض خلفيات وخفايا هذه الشعارات؟
ما بدأ غضباً شعبياً بسبب احتمال فرض ضرائب اضافية على كاهل اللبنانيين والتي كان آخرها الـ 6 دولارات ( شهرياً) على تطبيق "الواتساب"، قوبل برفع شعارات مطلبية وإقتصادية تحول سريعاً الى حركة إحتجاج بمطالب سياسية، فمن شعارات رفض الضرائب وإسقاط حكم المصرف إنتقل الشارع الى المطالبة بمحاسبة كل مسؤول عن الوضع الخانق الذي وصل اليه الناس.
مناطق لبنانية عديدة شاركت في الاحتجاجات بقوة من الشمال الى الجنوب مروراً بالجبل والعاصمة ووصولاً إلى البقاع، حيث تشعبت الشعارات وتعددت من وحي اللحظة التي إختلطت فيها المطالب السياسية بالإقتصادية، كما استُعيدت شعارات من حركات سابقة أبرزها استهداف النظام، "الشعب يريد إسقاط النظام"، بعض الشعارات ذهب في اتجاهات كيدية موجهة ضد خصوم سياسيين، عبر حناجر المحتجين، ولكن كل الشعارات مهما تباينت سُمعت وقُرئت ورُسمت وشوهِدت لتصل الى من يجب ان تصل اليهم.
ويبدو ان القاسم المشترك ما بين العديد من الدول العربية أخيراً، ويتكرر اليوم بين بعضها، كان ولا يزال التظاهر والنزول الى الشارع كما شاهدنا سابقاً في مصر والعراق والسودان وتونس والجزائر، وما نشاهده اليوم في لبنان والعراق والجزائر ومنذ أسابيع في السودان، واللافت أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" يتمايل على ساحتي بيروت وبغداد.
الثوار لا يزالون حتى اليوم يرفعون العلم اللبناني في الساحات، حاملين ومردّدين شعارات تطالب بإنهاء الفساد وبإسقاط أعمدة الحكم في لبنان، وبعضهم يطالب بالاموال العامة المنهوبة والكثير من الشعارات المرفوعة، بينما البعض وقع ضحية الاستغلال السياسي من قبل أطراف ركبت موجة الحراك الشعبي.
المعادلة هي: اللغة، السلطة، الشارع والشعار
وفي هذا السياق يقول الدكتور والباحث نادر سراج، أستاذ اللسانيات وفن التواصل في الجامعة اللبنانية، أصدر عدداً كبيراً من المؤلفات في اللسانيات واللهجات، من أبرزها "الخطاب الاحتجاجي"( قراءة في الشعارات التي حملتها التظاهرات في لبنان ومصر ودول أخرى): "عندما يخرج المنتفض الى الشارع فهو يخرج بزاده اللغوي اليومي، مفردات وتراكيب وأساليب وقيم، فالخطاب الاحتجاجي هو لغة الشارع؛ ومن مسموعاتي ومشاهداتي استخلصت فكرة مفادها "تمرّد الشارع فتمرّدت اللغة، فعكست بتمرّدها نبض الشارع المنتفض وغضب المحتجين"، هناك نوع من توافق واتصال ما بين مكونات أساسية هي: "اللغة، السلطة، الشارع والشعار"، معتبراً أنه لا يمكننا فصل أي مكوّن عن الآخر، وهذا يتجلى اليوم في ساحات التظاهرات اللبنانية، فنبض الشارع يلتقي ويترجم باللغة، وتحديداً اللغة اليومية، لغة الوجع والتفجع والمعاناة.
ويضيف أن ثمة الكثير من الشعارات القديمة أُعيد إحياؤها بحكم ديمومة دلالاتها، لافتاً إلى أن السياسة تنعكس في اللغة، واللغة حدّدت مسارات المنتفضين، وهؤلاء إستفادوا من الدرس البلاغي المصري، فركزوا على عودة العسكر إلى الثكنات وتسليم السلطة للمدنيين. مؤكداً أن سلمية التظاهرات الجزائرية والسودانية كانت مذهلة ولافتة للنظر، لدرجة أن إخواننا الجزائريين كانوا ينظفون كل الساحات في صباح اليوم التالي للتظاهر، وهذا ما شاهدناه أيضاً عند المتظاهرين في أكثر من ساحة لبنانية.
ويشرح صاحب كتاب "الخطاب الاحتجاجي دراسة تحليلية في شعارات الحَراك المدني" (2017)، والفائز بجائزة أفضل كتاب عربي للعام 2013 من "مؤسسة الفكر العربي" عن كتابه "الشباب ولغة العصر" دراسة لسانية اجتماعية: "هناك ما نسميه في شعارات اليوم "بساطة السبك" فمثلاً لدينا شعار رائع في لبنان صدر في عامي 2015 و2016 هو "كلّن يعني كلّن" بمعنى أن الفساد يعمّ كل هذه الطبقة الممسكة بمقاليد الحكم، هذا الشعار حتى الآن يستعاد في لبنان للتعبير عن سوء الوضع أو تكامل سوء الوضع".
هذه الجملة الخبرية القطعية، ثلاثية الألفاظ، فعلت فعلها الدلالي في صفوف الجمهور ببلاغتها الشعبية الواضحة المعالم، فحجم تداولها ورمزية مضمونها حتّما على "الآخر" اعتمادها واستعادتها في قوالب تعبيرية، وتوظيفها في خطاباته للتطمين ونفي التهم وإبداء وجهات النظر، وفق سراج.
الثورة كسرت القيود
ويلاحظ أن الناس لجأت الى عاميتها إلى دوارجها إلى اللغة الملفوظة الى ما نسميه "المعيوش" ونهلت منه الكلمات الطبيعية فكلمة "طلعت ريحتكم " باللبناني كلمة تستخدم في سياق سلوكي معين، مستدركاً بأنه استخدمت للتعبير عن يأس الجمهور وقرفه من الطبقة الحاكمة، وهنا تلتقي اللغة بالمجتمع في لحظات الازمة والصدع الاجتماعي، وما علينا سوى المراقبة والرصد والتحليل.
وينطلق سراج بأن العالم بات قرية كونية ومكتبة مفتوحة، اللغة الشعاراتية، الفضاءات البلاغية الجديدة التي انفتحت في العالم العربي منذ تونس 2011، وحتى اللحظة الجزائرية والسودانية والعراقية واللبنانية الساخنة اليوم هي فضاءات تعبيرية جديدة، مستخلصاً: "لقد انكسر القيد، حتى القيد التعبيري في الشعار السياسي كان حكراً على الايديولوجيين وعلى المثقفين وعلى الحركات اليسارية، كان شعراء الزجل والشعراء الكلاسيكيون هم الذين يكتبون الشعارات عشية التظاهرات، واليوم من يكتب هذه الشعارات هو سيدة المنزل، هو رجل الشارع، هو الاستاذ والمثقف والطالب، هو كل الناس".
ومن هنا يشدّد على أن الشعارات العربية لم تعد مجرد تلفظ لغوي ناقل رسالة معينة (اجتماعية، سياسية، بيئية أو دينية)، بل تحولت الى فعل سياسي تغييري مكّن - الى حد ما - مطلقيه الحقيقيين ومردديه من إنجازات ملموسة على ارض الواقع، متناولاً لغة الشباب التي باتت تصدح في الساحات العربية المنتفضة هي محاولة لخلق مجال تعبيري منفصل عن مجال اللغة الرسمية المؤطرة لغة الاهل لغة المراجع لغة المدرسة لغة الجامعة، معتبراً أن الشباب يحاول خلق فضاء بلاغي له بحد ذاته لا يستطيع الآخر أن يخترقه، ولكن هناك بعض ما يسمونه بالمندسين والبلطجية والشبيحة بالإضافة الى ظواهر ساعدت في تعديل المسارات الديموقراطية لهذه التحركات وقلب هذه الشعارات.
وبرأيه فإن الشعار، تعريفاً، هو "صرخة حرب"، وها هو يتحول اليوم إلى "صرخة غضب"، مضيفاً بأن الغاية منه هي استقطاب الجمهور المتلقي ومحاولة إقناعه بمضامين الرسائل الاجتماعية والمطلبية والسياسية، والتأثير في خياراته وصولاً إلى حثّه للقيام برد فعل سلمي لاعنفي، بهدف تحقيق مطالب مشروعة.
أساليب مبتكرة وجريئة للشعارات
وفي السياق ذاته يرى سراج أنه الغضب العارم غادر الصدور ليصدح عالياً في الفضاءات البلاغية المفتوحة الآفاق، في المركز مثلما في الأطراف، ولا عجب بأن الجمهور المحتج اصطنع لغة تشبه منتجيها ومردّديها، وابتدع أساليب صوغ مبتكرة جريئة لشعاراته وهتافاته المعبرة عن حقه وتوقه لحياة كريمة ولائقة، مشيراً إلى أنه جاءت عالية النبرة واضحة الرؤية ورشيقة السبك، وقابلة للتنغيم. فعلى سبيل المثال نهلَ من أغان تطريبية وأخرى ولادية وثالثة ترقيصية، ولجأ إلى صنوف التناص فعدَّل واستعار وبدَّل في التراكيب والألفاظ العائدة لأقوال مأثورة وأمثال شعبية وأغانٍ شائعة، لينقل رسائل ساخنة. ويُشهدُ للبنانيات أنهن الوحيدات اللواتي هتفن وتمايلن على إيقاع شعار "الربيع العربي الأثير": "الشعب يريد إسقاط النظام"!
بدوره مقرّر لجنة إدارة البحث العلمي في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية د. هيثم قطب يفيد بأن الكثير من الشعارات الاحتجاجية عكس عدم رضى الثوار عن السياسة الاقتصادية المعتمدة، وبالتالي عدم رضاهم عن الطاقم السياسي الحاكم.
ويوضح أن شعار "كلن يعني كلن" المقصود به المنظومة السياسية بأكملها، ولا يمكن القول إن بعض أفرقائها جيد والآخر لا، الكل مخطئ، لأن المنظومة كلها كان عملها خاطئاً، ولا يمكننا فصل التأثير الاقليمي على الثورة، حيث الكثير من البلدان تشهد تظاهرات تصرخ الصرخة نفسها حيال الطبقة الحاكمة، ولبنان إبن بيئته ومحيطه.
جديد الشعارات من الزنار والنازل
ويتوقف قطب عند الشعارات البذيئة، "كانت ملفتة للنظر"، مشيراً إلى أن النقل المباشر يضعف قدرة القناة التلفزيونية على إجراء نوع من الرقابة عليه، فتمر مرور الكرام، لافتاً "منذ فترة لاحظت أثناء وجودي في فرنسا أن المتظاهرات كن يتفوهن بشتائم خارجة عن المألوف السمعي، وحتى الشباب يخجلون من قولها بوجود العنصر النسائي". أما وفي لبنان نرى السيدة والشابة خلال الثورة هي التي تحمس وتصرخ قبل الشاب بكلام "من الزنار والنازل"، وهنا سقط التابو الخاص بالممنوعات وهذا شيء جديد في شعارات الاحتجاجات في لبنان.
وبرأيه فإن الشتائم هي متنفس للإنسان يتفوه بها بكل اللغات، وعلمياً هناك رؤية باتجاه ادخال السينما الى المنهاج الجامعي، لأنه مجال يظهر فيه نوع من اللغات غير موجودة ضمن المنهاج المعتمد، رؤية ترى بأنه على الطالب التعرف عليها. ويتابع أنها بالتأكيد ليست جيدة عندما تكون موجهة الى شخص معين، والفارق أنه قبلاً لم تكن الناس تقولها في العلن فيما بات البعض يتقصد قولها على الشاشات، كل على طريقته.
وكشف قطب أنه وبعد أسابيع سيشارك في مؤتمر عن analyse de discours "تحليل الخطاب" يركز على غضب الشارع والكلام النابي الذي شهدته تظاهرات لبنان. مستبعداً الخوف من موضوع الشعارات الطائفية التي يرفعها المتظاهرون وحتى الشارع المقابل لهم، وحتى أصوات النشاذ داخل التظاهرات المسيئة للرئيس الحريري أو للسيد نصرالله أو الرئيسين بري وعون، "لدي ثقة أن الثوار والثائرات لديهم/هن ما يكفي من الوعي والادراك لعدم تحوير التظاهرات عن مسارها الطبيعي والحقيقي، وهذه الشتائم هي مجرد تنفيسة لا اكثر عندهم/هن"، لافتاً إلى أن ما يريح هو النضوج الفكري لدى نسبة كبيرة من الثوار/ الثائرات، وهذا ما يسعدني لأن الشعب لم يعد يدخل في صدامات بسبب كلمة أو كلمتين، وإن شاء الله لن يتكرر شبح الحرب الاهلية، وكل شيء سيسلك طريقه الى الحل عبر الحوار والتفاهم.
الهضامة وروح النكتة
ويضيف أن التظاهرات أثبتت ان الكلمة والشعار هما اقوى بكثير من حرق صور الزعماء والقيادات والتي بالطبع تعكس لنا حجم النقمة عند الثوار، حتى بتنا امام ما يشبه "فن الشعارات" المرفوعة، منها ما يعكس "الهضامة" و"روح النكتة" لدى الشعب اللبناني، وذلك في أوج معاناته وتخبطه في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، حتى رأينا تعليقات من الكثير من إخواننا العرب داخل لبنان وخارجه تعبر عن دهشتها وسعادتها من هذه الشعارات، لا بل حتى مشاهد فيديو لعمال أجانب وعاملات أجنبيات في لبنان يهتفون بشعارات الثورة نفسها بطريقة عفوية وبلغة عربية واضحة جداً!
منذ اندلاع الثورة برز قناع «V for Vendetta» الذي وضعه عدد كبير من الثوار. لهذا القناع قصة طويلة مع الثورة، فمصطلح «فانديتا» يعني الانتقام وهي كلمة يونانية الأصل، وفي الوطن العربي انتشر المصطلح في فترة وجيزة إلا أن تاريخه يعود إلى العام 1605، إذ كان يسمى بالأصل بـ»قناع جاي فوكس» نسبة إلى المتمرد «جاي فوكس»، وهو من صنع هذا القناع، وارتداه لأول مرة في العام 1605. وهو متمرد من أصل إنكليزي ينتمي إلى مدينة يورك القديمة في شمال غرب إنكلترا.
وظهر قناع فانديتا في السينما للمرة الأولى العام 2005 من خلال الفيلم الاميركي V for Vendetta، الذي أخرجه جيمس مكتيغيو، وهو مستوحى من إحدى القصص المصورة. وقام بأداء دور البطولة الممثل هوغو ويفنغ، الذي ارتدى قناع فانديتا طوال أحداث الفيلم، وتمّ اقتباس بعض أحداث الفيلم من خلال القصة الواقعية التي تم سردها أعلاه، ويعتبر الفيلم من الأسباب الرئيسية لشهرة القناع عالمياً كرمز للتمرد والثورة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك