لم يعد من مجال للشك في ان النهج السياسي الذي تتبعه السلطة في مقاربة اوضاع البلاد وازماتها المستفحلة بعد تخطيها كل الخطوط الحمر واقترابها من قعر الهاوية التي سقطت فيها، ليس بحجم الحدث، لا بل ادنى بأشواط. فالثورة الشعبية المندلعة منذ ثلاثة وعشرين يوماً معطوفة على الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تثبته تخفيضات التصنيفات الدولية لوضع لبنان ومصارفه واقفال كبريات شركاته الخاصة لم يغيّرا قيد انملة في تعاطي الطبقة الحاكمة مع الواقع، ولولا استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع لبقيت امور الدولة على حالها من منظار هذه الطبقة طبعا وليس من وجهة نظر الشعب ولا المجتمع الدولي الذي يراقب التطورات بقلق بالغ. هذه السلطة ما زالت حتى اللحظة تخوض حروبها فوق أنقاض دولة، حيث لا سلطة ولا مؤسسات ولا استقرار ولا اقتصاد، وانتفاضة شعبية لا تكفّ عن دعوتها الى المغادرة كل لحظة، فيما هي تواصل صراعها على مغانم وهمية وعلى فتات وطن يواجه تحديا وجوديا في مرحلة مفصلية. والأرجح أنه لن يبقى متسع من الوقت لدى أحد للاحتفاء بالمكتسبات الافتراضية، متى تدحرج البلد الى قعر الهاوية السحيقة.
ازاء هذا المشهد المخيّم على الملف الحكومي في ضوء طريقة التعاطي مع التكليف والتأليف، بعد اكثر من عشرة ايام على استقالة الرئيس سعد الحريري، وحكومته بطبيعة الحال، في 30 تشرين الاول الماضي، ومضي القوى السياسية في المكابرة والاصرار على تشكيل حكومة، تراعي القواعد والمعايير نفسها التي اعتمدت في حكومة ما قبل "الثورة"، تقول مصادر سياسية متابعة لـ"المركزية" ان مجمل هذا المشهد يضع اللبنانيين امام واحدة من قراءتين، فإما ان هؤلاء ما زالوا غير مقتنعين بأن "زمن الاول تحوّل" وما كان ساريا قبل شن الشعب اللبناني حربه عليهم للقضاء على دولة الفساد التي بنوها لم يعد ممكنا ان يستمر بعدها، ولا يتهيبون دقة الوضع او بالاحرى يتهيبونه غير انهم مستعدون للتضحية بالبلاد والعباد شرط عدم انكسارهم وعلى قاعدة "عليّ وعلى اعدائي" وهذه مصيبة لا بل خطيئة لا تغتفر، اذ ليس بهذه الطريقة يُدار الشأن العام ويتم الحفاظ على الدستور، واما، وهنا الكارثة الكبرى، ان تكون الطغمة الفاسدة المتحكمة بكل مفاصل الدولة وعروقها بعدما جذّرت ازلامها في كل الادارات والمواقع قررت دفع البلاد الى الانهيار من أجل بلوغ هدف محدد هو الارجح ضرب اتفاق الطائف وتغيير النظام، ليس طبعا التغيير الذي ينادي به الشعب في الساحات، انما فرض ما يريدونه، والارجح المثالثة، بحسب المصادر، بحيث يحصلون عليه عن طريق انهيار الدولة، بعدما عجزوا عن تحصيله بالسياسة.
وتعتبر المصادر ان اتفاق الطائف الذي لا تنفك بعض القوى السياسية توجه سهامها ضده وبعضها ما زال حتى اللحظة يحاربه خفاءً، هو افضل نموذج حكم يمكن ان يعتمد في دولة تعددية مثل لبنان، بدليل ان بعض الدول التي تشهد صراعات ونزاعات في الاقليم يتجه الساهرون على تسوياتها السياسية لاعتماد هذا النموذج بعينه كأفضل اطارات الحل. غير ان القوى السياسية اللبنانية التي ما زال بعضها حتى اللحظة يقاوم الطائف استنسب منه ما يلاقي مصالحه وتطلعاته الخاصة وترك الاساس، وتحديدا في الشق المتصل ببسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل اراضيها، لا سيما ما ينص على ما حرفيته "الاتفاق بين الاطراف اللبنانية على قيام الدولة القوية القادرة المبنية على اساس الوفاق الوطني بوضع خطة أمنية مفصلة مدتها سنة، هدفها بسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجيا على كامل الاراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية".
بعد ثلاثين عاما على توقيعه، يبدو بحسب المصادر، ان ثمة من ارهقه الاتفاق وبنوده وبات يحتاج الى اوراق قوة تعويضا عن خسارات قد تلحق به قريباً فقرر الانقضاض على الدولة عن طريق انهيارها وفرض طائف جديد عنوانه المثالثة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك