لم يتعبِ اللبنانيّون ولن يتعبوا. هم الدولة الحقيقية في مواجهة سلطة مصطنعة قائمة من أحلاف تناقضات، صهرها المتحكّم، ليُمعن في تنفيذ أجندةٍ لا علاقة لها بخيارات أبناء الوطن الواحد. هُم الدولة لن يقبلوا بعد اليوم الارتهان الزبائني، ولا التطويع المُمنهج، ولا أبواق نعيق التسويات الهشّة، ولا اتهاماتٍ يسوّقها مشبوهون في ما هو مقبلٌ عليهم من وِزرٍ لأنهم ثاروا، ولا تخوينٍ تهويليّ احترفه من يجهل صميم النضال من أجل الحقيقة.
نقاء الثورة في صورها التعدّدية اللامركزية، وتحديدا اندفاعة الشباب فيها عنينا الكتلة الطلاّبيّة المدرسيّة والجامعيّة، هذا النقاء يشبِه قلب لبنان الذي أمعن في وقف نبضِه غُرباء الا عن مصالحهم العفنة.
بإزاء هذا النقاء، السُلطة قابعةٌ في سلطويّتها. الإنكار، والاستعلاء، والعناد، والمكابرة والارتياح لوسائل صمودها، كلّ هذه عناصر سمحت من خلالها لنفسِها باستباحة الدستور، وبصيرورة مستدامة في هندسة الصفقات تحت مُسمّى "مشاورات الإنقاذ". ليس هذا التموضع في حالة انتشاء القوّة سوى دلالة على عَفَنِ ما اصطُلح على تسميته بـ "حُكم الأقوياء" مرفوداً بـ "فائض قوّة" استطاع دمج هؤلاء، حتى في مساحات اللاحوكمة، على قاعدة التنعّم بلذائذ ما توفّره الدولة - الغنيمة، ولو بالفُتات المتبقّي، مع أوهامٍ شتّى.
الأوهام الشتّى اسقطتها الثورة. وَهمُ استعادة حقوق مهدورة إذ بدت حقوق كلّ اللبنانيّين مهدورة. وَهمُ القُدرة على الإمساك بالديموغرافيا المذهبية بقبضاتٍ حديديّة. وَهمُ الرّكون للتمّنين بالحق المكتسب على أنه انصياعٌ أعمى صُلبُ القاعدة. وَهمُ بناء أحلاف أقليّات ومشرقيّات فيما كرامة الانسان مسلوبةٌ ومستلبة. وَهمُ إمكانيّة دفن الثورة برِهانات التعب، والأرق، والقلق، والتهديد بالفوضى والانهيار.
تدحرجت هذه الأوهام في فِعل الناس الإيماني بلبنان الرسالة في العيش معاً بآفاق غير تلك التي حتّمتها السُلطة.
وبين نقاء الثورة وسلطويّة السُلطة، ثمّة من يستدعي في ما يُعنى بمبادرة تصويب المفاهيم وتصويب المسارات، إنكفاء الناس الى حيّز قيادةٍ تفاوِض. في هذا الانكفاء الآن مقتلةٌ للثورة، إذ من المُلِحّ بمكان بلورة برنامج مرحليّ بخلفيّة عناوين مركزيّة، تتمظهر بديناميّات لامركزية، قبل أي هيكلة أفقيّة حتى. المفاوضة تمييع الان.
وثمّة من يبشّرنا بمبادرةٍ، على غِرار تلك ما قبل الانتخابات النيابيّة، لضخِّ أوكسيجينٍ ربما في رئة الحاكِم فالمتحكِّم، بالاستناد الى مركنتيليّة فذّة يعلَم القاصي والدّاني مآلاتها.
ما عاد اللبنانيّون، ولم يكونوا بالأساس يومًا ولو صمتوا، ما عادوا قابلين بإلتفافاتٍ مكيافيلليّة ممهورة بختمٍ خلاصيّ.
الخلاص عندهم من السجن المفروض، والسجّان الواقعي، بسياقات التخفيف من الحُكم عليهم بالإعدام، واستبدال هذا الحُكم المستبدّ الظالِم بعلاجاتٍ موضعيّة من مِثل الأشغال الشاقة، هذا الخلاص من المقدّر أي يبدأ بصياغته مُربّع الانتلجنسيا التي ما زالت حذرة حتى الآن في مقاربتها للثورة...
متى تثور على حذرها؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك