يقيم لبنان، بعد انفجارِ موجة التظاهرات واستقالة الحكومة، في مأزقٍ كبير دَفَعَ جميع الأطراف، إلى معاودة قراءة المستجدات البالغة الدراماتيكية، خصوصاً أنه لا يمكن عزْل ما يجري عن اللوحة المعقّدة في المنطقة التي يشتدّ الصراع فيها و... حولها.
فـ«محور المقاومة»، الذي بدا وكأنه في «خليةِ أزمةٍ» يراقب ويدقّق ويستْنتج، له مقاربةٌ تجعله على ارتيابٍ شديد مما يجري، ولا سيما في ضوء «البروفة» التي شهدها الحِراك الشعبي في لبنان من تقطيعِ أوصال المناطق عبر قطع الطرق.
ورغم معاودة فتْح الطرق، فإن «حزب الله» لم يرَ في الكثير من المظاهر التي ترافقتْ مع التظاهرات أعمالاً بريئة، وهو يخشى وجود محاولات لدفْعه إلى الارتداد نحو الداخل لإغراقه في مستنقعٍ خطر، ولتهيئة مناخاتٍ شبيهة بتلك التي مهّدت لـ«اقتلاع» منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
ففي «محور الممانعة» مَن يعتقد أن منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات التي كان يُراد تحطيمها وإخراجها من لبنان، وقعتْ في الفخّ مع انفجار الحرب الأهلية العام 1975 لِتَوَرَّطُها في الداخل اللبناني، ما مهّد الطريق أمام الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، وتالياً إخراجها من لبنان وبدء ظهور المقاومة الإسلامية التي أصبحتْ تُعرف في ما بعد بـ«حزب الله».
هذه الإحاطة التاريخية حاضرة الآن في مقاربة «محور المقاومة» للأحداث، إذ يعتقد «حزب الله» أن السيناريو نفسه يمكن أن يتكرّر في حال جرى جرّه إلى مواجهة المتظاهرين في الشارع، وهو الأمر الذي يفسّر حرص قيادته على ممارسة سياسة «الصبر» عبر ضبْط رجاله وإبقاء جمهوره بعيداً عن الشارع، رغم تساؤلاتٍ عن سبب عدم ممارسة ضغوط لفتْح الطرق يوم أُغلقت، وعن سبب استمراره في تغطية حلفائه بغض النظر عن اتهامهم بالفساد.
يصعب الردّ على هذا النوع من الأسئلة من دون العودة إلى تطوّر موقف «حزب الله»، الذي انخرط وقبل أعوام من ولادته رسمياً في 1985 بتحرير الأرض بعد الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، وهو ما أفضى إلى الانسحاب الإسرائيلي من غالبية الأراضي اللبنانية في العام 2000، ومن ثم ظهر الحزب بعد هذا الانجاز كـ«لاعبٍ أساسي»، لكن الكثير من أعضاء شورى الحزب أرادوا الابتعاد عن المشاركة في الحكومة لاعتقادهم أن الطبقة السياسية الحاكمة منذ 1992 فاسدة.
هذه المقاربة دفعتْ الحزب إلى الاكتفاء بوزيرٍ واحد في الحكومة لتكون له «آذان» داخل مجلس الوزراء، قبل أن يعود بعد سنوات إلى المطالبة بـ«حصةٍ وازنة» كسواه من الأحزاب والكتل البرلمانية، وهو الآن قرّر أن يكون شريكاً أساسياً لتمثيله فئةً لا يُستهان بها من اللبنانيين (الشيعة) مع حليفه رئيس حركة «امل» (رئيس البرلمان) نبيه بري.
هذا التحوّل في موقف «حزب الله» يعود - بحسب دوائر على بيّنة لصيقة من خياراته - إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان في الـ2005 والحرب الإسرائيلية في يوليو 2006. إذ حينها قرّر الحزب أخْذ حصته في الدولة ومؤسساتها وصارتْ له كلمة بالتفاهم مع الرئيس بري في التعيينات ولا سيما الأمنية، كما هو الحال بالنسبة إلى الطوائف الأخرى في بلادٍ محكومة بنظام طائفي.
وفي اعتقاد «حزب الله» أنه حقّق هدفه في حماية «شيعة لبنان» وضمان عدم الاستهانة بهم على النحو الذي كان قائماً من اضطهادٍ على مدى عقود نتيجة النظام السياسي غير العادل والطوائفي، وهي المرحلة التي انتهت بعدما نَجَحَ الحزب في تكوين منظومة عسكرية واجتماعية قويّة وفعالة مكّنتْه من أن يصبح الجهة التي ترشّح رئيس الجمهورية.
من هنا فإن «حزب الله» يقدّم نفسه على أنه ليس مجرد «مجموعة محلية» بل أصبح لاعباً إقليمياً ودولياً خاضَ أخيراً حرباً ناجحة ضد «داعش» و«القاعدة» على الحدود اللبنانية، وفي سورية والعراق، وعمل رجالُه في مساحاتٍ جغرافية توازي عشرة أضعاف مساحة لبنان، كما أنه قاتَلَ في العديد من الدول تماشياً مع هدفه بالدفاع عن المضطَهَدين في العالم حيثما وُجدوا، وهو ما عبّر عنه الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بكلماتٍ قليلة عندما قال: «سنكون حيث يجب أن نكون».
ورغم أن وجودَ «حزب الله» خارج الحدود اللبنانية وفي الساحات الإقليمية أثّر سلباً على السمعة التي كسبها في العالم العربي من جراء محاربة إسرائيل، فإنه غالباً ما يُفاخِر بِتَعاظُمِ قوّته العسكرية حين يتعمّد إظهار نفسه على أنه أقوى الجيوش - غير النظامية - في الشرق الأوسط لامتلاكه قوات خاصة مدرَّبة، وعشرات الآلاف من الصواريخ، منها البعيدة المدى ذات الدقة العالية، والصواريخ المضادة للسفن وصواريخ أرض - جو والطائرات المسيّرة - المسلّحة، إضافة إلى القدرات الإلكترونية والمراقبة والتنصت.
هذه المكانة العسكرية المرموقة لم تَحُلْ دون تعرُّضه لانتقاداتِ في ظل الحِراك الشعبي. فالحزب يرتبط بحليفٍ شيعي هو بري وبشريكٍ مسيحي هو رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره، ووريثه السياسي رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل، وهي تحالفاتٌ لا تخلو من الإيجابيات والسلبيات، خصوصاً مع خروجٍ أصوات من الشيعة من بيئة «حزب الله» تنتقد بشدّة حلفاءه، أي بري وباسيل، المُتَهَّمَيْن بالفساد.
وفي تقدير دوائر على بيّنة من تقويم «حزب الله» لِما يجري أن ما يبدو حملةً حقيقية ضدّ الفساد والاقطاع السياسي المتأصّل، هو حملةٌ أيضاً ضد الحزب لإضعاف حلفائه من دون التصويب عليه مباشرةً لأنه يتعذّر مهاجمته على نحو علني. وتذهب تلك الدوائر إلى حد القول إن «حزب الله» يدرك أن العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين يعرفون جيداً أنه لا يمكن القضاء عليه في ساحة المعركة (كما ظهر في معاركه مع إسرائيل والجهاديين) وسيكونون تالياً سعيدين لرؤية الحزب يغْرق في معارك سياسية داخلية ومستنقعاتِ الحرب الأهلية.
هذه الخلاصة في قراءة «محور المقاومة» لِما يجري، تنتهي بسؤال إذا كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يعمل بلا ملل أو كلل لتنفيذ سياسة بلاده القديمة - الجديدة، فهل ينجح؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك