مع دخول أزمة شحّ الدولار في الأسواق شهرها الرابع على إثر تصنيف لبنان الإئتماني في منتصف آب الماضي، أخذت هذه الأزمة أبعادًا جديدة مع حالة الهلع بين المودعين والتداعيات الإقتصادية التي بدأت تظهر نتيجة هذا الشح، خصوصًا في ما يتعلّق بالإستيراد.
هذا الإستيراد الذي يُشكّل ما يزيد عن 50% من الإستهلاك، أصبح يُهدّد المنظومة المالية بأكملها نتيجة الأرقام المُخيفة التي تُسجّل على صعيد عجز الميزان التجاري. فقد بلغ عجز الميزان التجاري على الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي 11.4 مليار دولار أميركي أي ما يوازي 21% من الناتج المحلّي الإجمالي!
الميزان التجاري وإحتياط مصرف لبنان
مُشكلة عجز الميزان التجاري أنه يؤثّر سلبًا على إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية عملًا بالآلية الآتية:
يدخل الميزان التجاري في احتساب الحساب الجاري الذي يُستخدم بدوره في احتساب ميزان المدّفوعات. هذا الأخير هو عبارة عن مؤشر يدل على اتجاه وحجم صافي العملات الأجنبية من وإلى لبنان. فإذا كان إيجابيًا فهذا يعني أن هناك دخولاً للعملة الأجنبية إلى لبنان، وإذا كان سلبيًا فهذا يعني أن هناك خروجاً للعمّلة الصعبة من لبنان.
والنقطة الأساسية التي يتوجّب معرفتها أن الفائض من العملات الأجنبية يذهب إلى إحتياط المصرف المركزي، في حين أن النقص في العملات الأجنبية يتمّ سدّه من إحتياط المصرف المركزي!
وتُشير الأرقام إلى أن ميزان المدّفوعات يُسجّل بشكل مزمن عجزًا (بإستثناء العام 2016) مع أرقام كبيرة في الأعوام الأخيرة بلغت حدود الـ 5 مليار دولار أميركي.
السبب الأساسي لعجز ميزان المدّفوعات يأتي من عجز الميزان التجاري والذي تعود أسبابه إلى ضعف الماكينة الإقتصادية اللبنانية (خدماتية بإمتياز). وأدّت زيادة القدّرة الشرائية للمواطن اللبناني خصوصًا بعد العام 2006، إلى زيادة الطلب على الإستهلاك المُستوّرد، وبالتالي إرتفع عجز الميزان التجاري. لكن هذا العجز أخذ بتسجّيل أرقام كبيرة بعد بدء الأزمة السورية وصلت إلى أكثر من 18 مليار دولار أميركي سنويًا.
تعمد الحكومات عادة إلى حلّ مُشكلة العجز في الميزان التجاري بإستثمارات لتقوية الماكينة الإنتاجية الداخلية، و/أو رفع الرسوم الجمركية على الإستيراد. أما المصارف المركزية، وبحكم أن إحتياطاتها هي التي تتأثر بشكل مباشر، فتعمد إلى إستقطاب رؤوس الأموال من خلال الفوائد.
وتُشير البيانات التاريخية أن التغيّرات في إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية تتبع بشكل ميكانيكي ميزان المدّفوعات. لذا عمد مصرف لبنان في العام 2016 إلى القيام بهندسة مالية بهدف تعويض العجز في ميزان المدفوعات (3.35 مليار د.أ) وبالتالي التأثير على الثبات النقدي من خلال جذب دولارات من الخارج. وهذا ما حصل، حيث أن نهاية العام 2016، شهدت تسجيل فائض في ميزان المدفوعات بقيمة 1.24 مليار دولار أميركي.
وبغض النظر ان الجدل حول كلفة هذه الهندسة المالية التي تحمّلها مصرف لبنان، إلا أن معالجة مُشكلة عجز ميزان المدفوعات يجب أن تأتي من الحكومة وليس المصرف المركزي وهذا الأمر لم يحصل!
فالإصلاحات الإقتصادية بهدف تحويل الماكينة الإقتصادية من ماكينة خدماتية إلى ماكينة إنتاجية والتي تعتمد بشكل ملحوظ على الصناعة والزارعة، لم تحصل أبدًا. لا بل على العكس تمّ ترك الأسواق تُحدّد توجه الإقتصاد مما دفع اللاعبين الإقتصاديين إلى التوجّه نحو التجارة والخدمات وهي المعروفة أنها ذات قيمة مُضافة مُنخفضة في الإقتصاد وأرباحها سريعة.
الجدير ذكره أن مدخول وإنفاق لبنان من العملات الأجنبية هو على الشكل الآتي:
- مداخيل: الصادرات، السياحة، تحاويل المُغتربين...
- إنفاق: الإستيراد، فيول شركة كهرباء لبنان، تحاويل العاملين في لبنان، الإستشارات والتلزيمات الخارجية...
ويبقى الإستيراد في هذه المعادلة، الأكبر من ناحية الحجم وبالتالي هناك ضرورة قصوى لإجراء إصلاحات إقتصادية لمعالجة هذه المُشكلة.
القطاع المصرفي وتمويل الإستيراد
بلغ إستيراد لبنان في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، 11.4 مليار دولار أميركي. هذه البضائع والسلع المُستوردة تمّت على السعر الرسمي الذي كانت تؤمّنه المصارف اللبنانية، لكن الأوضاع تغيّرت منذ أيلول حيث أخذت المصارف بفرض قيود على تسليم الدولار للمستوردين مما دفعهم إلى اللجوء إلى الصيارفة. وإذا كانت الأزمة قد بدأت في شهر أيلول على إثر فرض العقوبات على جمّال تراست بنك، إلا أن مفعولها لم يبدأ فعليًا إلا في أول شهر تشرين الثاني حيث بدأت الصرخة تعلو لدى التجار المُستوردين وقام بعضهم باللجوء إلى الإضراب على مثال محطّات الوقود.
وباستثناء بعض القطاعات الأساسية التي يتمّ تأمين الدولارات لها على سعر الصرف الرسمي (تعميم مصرف لبنان)، نرى أن الإستيراد في القطاعات الأخرى التي تشتري الدولار على أسعار الصيارفة سينخفض بنسبة كبيرة خصوصًا كل ما يتعلّق بالكماليات.
ما يُطالب به التجار اليوم هو تأمين دولارات لهم على سعر الصرف الرسمي، إضافة إلى السماح بتحاويل الدولار إلى الخارج. في الواقع، نرى أنه من الصعب جدًا على القطاع المصرفي تلبية هذين الأمرين في ظل فقدان الثقة الناتج عن الفراغ الحكومي خصوصًا أنه على مُعدّل الإستيراد الحالي، كل دولارات لبنان لن تكفي إلا فترة محدودة، وسنجد بعدها الإقتصاد من دون دولارات والليرة اللبنانية من دون دفاعات!
من هذا المُنطلق، يتوجّب فعليًا بدء البحث عن حلول بديلة يتمّ تنفيذها في أسرع وقت وذلك لتخطّي الأزمة الحالية ولكن أيضًا تصحيح جزء من الخلل البنيوي في الماكينة الإقتصادية: تشكيل حكومة كشرّط أساسي لأي إجراء، مقاطعة كل المُنتجات المُستوردة التي لها مثيل في لبنان، التقليل من إستهلاك الكمليات، إنشاء معامل محلّية لتلبية قسم من الطلب الداخلي أقلّه للمواد الغذائية، تخصيص أملاك عامّة لتأجيرها لمن يُريد إنشاء معامل وزراعة المواد الأساسية مثل القمح.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك