كتبت راغدة درغام في "النهار العربي":
بعض أهم التساؤلات عن مصير تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية برعاية جمهورية الصين الشعبية يشمل الآتي:
أولاً، ما مدى استعداد النظام في طهران إما لإصلاح أو لتعديل النظام بمنطقه وأيديولوجيته لينفّذ تعهداته التي جاءت في البيان الثلاثي، وأكدت "احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، وعلى "تفعيل اتفاقية التعاون الأمني" بين طهران والرياض، ونصت على حرص الدول الثلاث على "بذل كل الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي؟".
ثانياً، ماذا سيكون مصير الترويكا الصينية - الروسية - الإيرانية في ظل التطوّر الفائق الأهمية على صعيد العلاقات السعودية - الإيرانية، ونتيجة المبادرة الصينية الدبلوماسية، كما بسبب التورط الروسي في الحرب الأوكرانية؟
ثالثاً، لماذا لا تمانع الولايات المتحدة كثيراً أن تقوم الصين بدورٍ جديد عليها تماماً في ساحة الشرق الأوسط، وبالذات في منطقة الخليج؟ هل لأن هذا الدور يريحها أو لأن في ذهنها المراقبة الآن والمحاسبة غداً؟
رابعاً، كيف قد يتأثر الداخل الإيراني بشق الخلافات في صفوف الحكم كما في صفوف الانتفاضة الشعبية بالاتفاق السعودي - الإيراني؟
وخامساً، ماذا سيحدث لأهم ركيزة للنظام الإيراني وهي أذرعه الإقليمية؟
الرئيس الصيني شي جينبينغ سيزور موسكو الأسبوع المقبل، والأرجح أنه لن يُعلَن مسبقاً عن الموعد المحدد، وذلك نزولاً عند رغبة بكين. هذه زيارة حسّاسة ستراقبها واشنطن والعواصم الأوروبية بكل دقّة للتعرّف إلى دلالاتها وتداعياتها، في خضمّ المعارك الضارية في الحرب الأوكرانية التي تستحوذ على أولوية الغرب، وليست المبادرة الصينية الشرق - أوسطية سوى من ناحية مصير الترويكا الصينية - الروسية - الإيرانية.
في المعلومات، ما يبحثه الطرفان الصيني والروسي تمهيداً للزيارة يشمل الحديث عن الترويكا الاستراتيجية "فهي حيٌّ يُرزق"، وفق مسؤول روسي سابق مطّلِع على ملف العلاقات الثلاثية. بكلام آخر، إن القيادة الصينية ستطمئن القيادة الإيرانية من العاصمة الروسية في أن المعاهدة الاستراتيجية معها لن تتأثر بانعطافة الصين نحو الدول العربية في الخليج. بكين تنوي أيضاً تأكيد العلاقات الاستراتيجية مع موسكو في وجه الغرب، لكن بصورة ذكيّة لا تورّطها مباشرة مع الولايات المتحدة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيصرّ على نظيره الصيني أن يعوّض له عن العقوبات الغربية على روسيا، لا سيما بعد نجاح ضغوط دول "ناتو" على تركيا بفرض قيود على صادراتها إلى روسيا. والقائدان سيبحثان، ليس فقط في مشاريع أنابيب نفط جديدة وفي سيناريوات الحرب الأوكرانية، بل إنهما سيتطرقان إلى التحالف الاستراتيجي والميداني بين موسكو وطهران الممتد من أوكرانيا إلى سوريا، وإلى تعزيز المعاهدات الاستراتيجية البعيدة المدى بين العواصم الصينية والإيرانية والروسية.
هناك سيناريوان في هذا الإطار: السيناريو الذي راهن على نقلة نوعية في المواقف الصينية، واعتبر الانعطافة نحو دول الخليج العربية إنذاراً إلى طهران بأن المصالح الصينية تقتضي التأقلم، وعلى القيادة الإيرانية أن تفهم وتتقبّل، وأن تعيد النظر في صلب أيديولوجيتها بشقها الإقليمي. أصحاب هذا الرأي تفاءلوا بأهمية استثمار الصين وزنها مع إيران لتُحدِث تحوّلاً في سلوك طهران نحو جيرتها المباشرة، وإقليمياً عبر وكلائها في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.
السيناريو الآخر انطلق من قاعدة الثبات في الترويكا الصينية - الإيرانية - الروسية، باعتبارها ترويكا استراتيجية ضد الغرب، وبالذات ضد الولايات المتحدة. أصحاب هذا الرأي شككوا في تصدّع العلاقات الصينية - الإيرانية من الأساس، وهم يعتبرون أن القيادة الإيرانية مطمئنّة جداً إلى تحالفها مع الصين وروسيا مهما طرأ على علاقاتهما مع الدول الخليجية العربية.
لنستكمل الحديث من السيناريو الثاني، ثم نعود إلى الأول، للتعرّف إلى ما قد يدور في ذهن وفلك القيادة الإيرانية الحذقة والمتأهّبة للدفاع عن استمرار النظام وبقائها في السلطة.
هناك فارق جذري بين إصلاح النظام reform، وتلطيف وتعديل السلوك modify الذي يعتمده النظام، وبالذات إقليمياً.
الذين يعرفون رجال الحكم في طهران مقتنعون بصورة قاطعة بأن هؤلاء الرجال لن يوافقوا أبداً على إصلاح النظام، لأن الإصلاح يلغي منطق وجود النظام ويدمّر مصدر مكاسبهم السياسية والشخصية المتمثّلة في ثراءٍ فاحش لبعضهم. هؤلاء الرجال لن يستغنوا عن شراكاتهم مع وكلائهم، لأن في تلك الشراكات منافع شخصية فوق العادة بعائدات مالية ضخمة، جزء منها عبر الإتجار بالمحظور، وفيها منافع أيديولوجية وأمنية وسياسية عائدة من التهديد والترهيب واستخدام الميليشيات لإخضاع الدول والشعوب في دول رئيسية لمشروع النظام، العراق واليمن وسوريا وبالذات لبنان.
رجال الحكم في طهران لن يوافقوا على إعادة هيكلة النظام بما يتماشى مع تطبيق "احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية". لن يخلع النظام جلده ولن يوافق أي من رجال النظام على تغيير آليات الدولة كما وضعتها الثورة الإيرانية عام 1979، بما فيها آليات تصدير الثورة إلى دول في الخليج وتصدير نموذج "الحرس الثوري" إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
ما سيفعله رجال النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو خلق أمر واقع أو وضع راهن جديد Status Quo، يتّسم بنبرة أقل استفزازاً ومواجهة علنية. لن يعدّلوا في جوهر النظام لكنهم سيلطّفون نوعية الأداء. سيتبنّون ما يكفي من المرونة بما يمكّنهم من المضي بمشاريعهم من دون أن يظهروا فيها علناً. سيخلقون أذرعة جديدة غير معروفة، مهمتها الاستمرار في مشاريع النظام من اليمن إلى لبنان من دون الارتباط بها علناً وبلا عرض العضلات.
سيقوم رجال الحكم في طهران بتحديث "لعبة الدمى"، كما وصفها مصدر صديق لهؤلاء الرجال، لتصبح السياسة الخارجية الإيرانية أكثر تطوراً وتبدو أكثر رقياً "فلن يحملوا الفأس بأياديهم، لكنهم سيملأون جيوبهم بالقذائف". "الحرس الثوري" لن يعاني. "حزب الله" في لبنان لن يقلق. فالتكتيك هو الذي سيُعدَّل وليس جوهر المشروع الإيراني ولا استراتيجية النظام.
كل ما هنالك أننا سنشهد إيرانَ أقل عدوانية علنية، إيرانَ ماضية ببرنامجها النووي بلا ضجة ولا تهديدات، إيرانَ أدركت أن ضجيجها وتعاليها ومكابرتها لم تنفع، وأن الأفضل لها أن يكون دهاؤها محنّكاً برقي، أي a more sophisticated Iran.
السؤال هنا هو: هل سترضى الصين بمجرد التحايل على الالتزامات وبالمراوغة التكتيكية، أم أنها ستلتزم حقاً بمعنى احترام "سيادة" الدول مما يجب أن يمحو تلقائياً قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بنصب قوات غير نظامية تابعة لها في دول سيادية: العراق ولبنان وسوريا واليمن؟
هل الصين حقاً جديّة في ضمان تنفيذ تعهّد إيران بالمهادنة وعدم التوسّع في دول أخرى من خلال أذرعها وميليشياتها؟ هل هي مستعدة للضغط على رجال طهران ليثبتوا حقاً أنهم توقّفوا عن التدخل في اليمن عبر الحوثيين لضرب الأمن القومي السعودي؟ وهل ستدفع الصين نحو احترام سيادة لبنان، مثلاً، وتدعو حقاً إلى تحوّل "حزب الله" من ذراع عسكرية لطهران يدحض السيادة اللبنانية إلى مكوّن سياسي له حقوقه الكاملة كجسم لبناني؟
هذه أسئلة فائقة الأهمية، وما من جواب واضح عليها إلى حين الاختبار. لذلك، من المبكر جداً التسرّع إلى الحديث عن جائزة نوبل للسلام تحصدها الصين بسبب رعايتها للتفاهم السعودي - الإيراني، بالرغم من أهميته القصوى. فمثل ذلك الكلام سابق لأوانه، ومن الضروري لجم التوقعات المفرطة بقفزة تغيّر معالم المنطقة بمجرد صدور البيان الذي توّج مفاوضات لسنوات جرت بين الرياض وطهران في العراق وعُمان، وآخرها في العاصمة الصينية.
الموقف السعودي الرسمي تجنب الإفراط واتّسم بالتفاؤل، لكن بحذر. تعليق مجلس الوزراء السعودي كان مقتضباً، إذ رحّب بالتعهدات وفق الشروط التي حددها البيان الصيني - السعودي - الإيراني المشترك، وفي طليعتها ألا تكون هناك طموحات إيرانية تؤثّر على العلاقات الأمنية بين البلدين، وألا تستمر طهران في طموحاتها التوسعية على حساب سيادة الدول في المنطقة.
البرنامج الإيراني
ولكن، لنعد إلى السيناريو المتفائل بنقلة نوعية نتيجة المبادرة الصينية. بين أبرز دواعي الاعتقاد أن الصين ستكون الضامن لتنفيذ التعهدات هو برنامجها الاستراتيجي، الحزام والطريق، وحرصها على علاقات استراتيجية مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ودول المشرق العربي.
لعبة الصين الكبرى هي أن تحلّ مكان الولايات المتحدة من ناحية النفوذ الاستراتيجي في المنطقة، وليس كبديل من الشراكة الأمنية بين الولايات المتحدة ودول المنطقة. أولويات الصين الاقتصادية لا تقتصر على الطاقة بأسعار جيدة من السعودية وإيران، فهي تبني الموانئ من بحر العرب للوصول إلى شمال الخليج، ومن جيبوتي في البحر الأحمر للوصول إلى أوروبا. فالصين ستكسب كثيراً استراتيجياً واقتصادياً، وستكسب أيضاً في بناء رصيد لها كدولة تضمن التعهدات وتحل المشكلات بالمفاوضات... كل هذا رهن التزام إيران بتعهداتها حقاً بلا مراوغة.
المعسكر المتفائل ينظر إلى التغيير من المواقف الإيرانية من منطلق الاضطرار نتيجة العزلة الدولية للجمهورية الإسلامية، وتراجع الدعم والحماية الأوروبية لها في أعقاب انخراطها في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا. هذا إلى جانب فشل جهودها الرامية إلى تتويج مفاوضات فيينا لمصلحتها، عبر الاحتفاظ بما تعتبره "الحق" النووي، بمعنى تطوير القدرات من دون تصنيع القنبلة الذرية، ورفع العقوبات. ثم هناك الانفجار الداخلي الذي ما زال يطوّق الحكم في طهران.
اليوم، يرى هذا النظام أن بقاءه يفرض عليه تعديل منطقه وإسقاط رسالة الثورة ومبادئها. هكذا فرضت الضرورة. هكذا ينظر هذا المعسكر إلى التطور في المواقف الإيرانية التي اضطرت إلى الانحناء أمام البراغماتية حماية لبقاء النظام، حتى لو كان على حساب إلغاء منطق وجوده وأيديولوجيته. رأي هذا المعسكر هو أن هذا تطوّر جذري سينسحب على دور "حزب الله" في لبنان، وسيتمثل في كف طهران عن فرض ما تريده في العراق، من الجيش إلى رئاسة الحكومة، وكذلك في سوريا واليمن.
لماذا يقبل رجال الحكم في إيران بكل هذا؟ يقول المقتنعون بطروحات المعسكر المتفائل إن هؤلاء الرجال اضطروا ليس فقط بسبب الاحتياجات الاقتصادية والمالية، بل أيضاً لأن إيران كانت ستواجه حرباً مع أميركا وأوروبا عبر البوابة الإسرائيلية بسبب برامجها النووية. المبادرة الصينية أتت لتطمئن هذه الدول أنها ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة ومبادئها، وعلى رأسها عدم حيازة إيران الأسلحة النووية، بسبل وديّة وليس عبر الحسم عسكرياً.
لهذا السبب بالذات، ترحب الإدارة الأميركية بالدبلوماسية الصينية. فهي تعفيها من الاضطرار إلى استخدام القوة العسكرية مع إيران، وتغنيها عن المواجهة معها عبر تكثيف الضغط على طهران للامتناع عن تطوير برنامجها النووي العسكري أكثر فأكثر. واشنطن سترتاح من الضغوط الإسرائيلية عليها للتّورط في حرب على إيران إذا ما ضمنت الصين توقف إيران عن تخصيب اليورانيوم بهذه الدرجات الخطيرة.
قد لا يعجب البعض في واشنطن أن يكون الاتفاق السعودي - الإيراني قد نسف خرافة إنشاء محور عسكري خليجي عربي - إسرائيلي في وجه إيران، لكن هناك من شكّك أساساً في جدوى تلك الفكرة. ثم إن الولايات المتحدة لا ترى في الصين عدواً لإسرائيل، وبالتالي لا تعتقد أن الصين رعت شراكة سعودية - إيرانية في وجه إسرائيل.
أخيراً، وليس آخراً، لن نعرف بعد كيف سيتأثر الداخل الإيراني بالاتفاق، لأن هذا أيضاً رهن ماذا في ذهن القيادة الإيرانية لجهة كيفية تنفيذها. فإذا انقلب رجال النظام حقاً على مبادئ وأيديولوجية ثورتهم التي أعادت إيران العظيمة وشعبها نصف قرن إلى الوراء، فسيكون ذلك إنجازاً بارعاً للشعب الإيراني ومستقبله. أما إذا كان رجال النظام في صدد مقاومة الإصلاح الجدّي وفي صدد التحايل على التغيير عبر تلطيفٍ موقتٍ للأداء للتمويه ولتحويل الأنظار، فسيدفع الشعب الإيراني جزءاً من الثمن الباهظ الذي ستدفعه شعوب المنطقة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك