كتب أنطوان الأسمر في "اللواء":
تؤشر عمليات إجلاء بعثات ديبلوماسية عربية وغربية رعاياها من لبنان إلى القلق من انتقال الصراع من غزة إلى الجنوب، من غير أن يعني هذا الإجراء أن الحرب واقعة لا محال. إذ قد يكون ناتجا عن معلومات استخبارية تتصل بما هو متوقع او مرجح. وقد تكون نتيجة خطط وقائية عادة ما تقوم بها السفارات في أوقات التوتر.
لا ريب أن ثمة خشية فعلية مما سيؤول إليه الوضع لبنانيا في حال ثبت لحزب الله، باعتبار أن ثمة تسليما رسميا بأن قرار الحرب والسلم محصور فيه، أن إسرائيل ستتخطى في غزة الخطوط الحمر التي رسمها، وأحدها يتمثّل في اجتياح بري واسع للقطاع.
وكانت جهات متعددة المشارب، داخلية وخارجية، قد حاولت الحصول على ما تعتبره تطمينات من الحزب بعدم الإنزلاق إلى حرب شاملة، من دون أن تحصل على الجواب الشافي. إذ إن الحزب يعتبر الغموض والسرية عاملا رئيسا في سير المعركة وإدارتها، ولن يقدّم أي هدية لتل أبيب، مهما زادت الوساطات واشتدّت التنبيهات والتحذيرات.
وربما لغياب الجواب، توقّعت باريس ضربة حتمية إسرائيلية للبنان وإحتدّت اللهجة في الإتصال بين الرئيس إيمانويل ماكرون ونظيره الإيراني ابراهيم رئيسي، فيما واشنطن تكثّف تحذيراتها من توسّع النزاع إلى الجنوب، مع ما يعنيه ذلك من ضرب للإستقرار في كامل المنطقة، وهو الإستقرار الذي تغنّى به مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في مقاله في «فورين بوليسي» قبل أن يسقط بالضربة القاضية في 7 تشرين الأول.
مع ذلك، تغيب المؤشرات إلى حرب واسعة لا يريدها أي من الطرفين، إيران واسرائيل. لكن هذا الإنطباع لا يسقط الخشية من أن يؤدي تغيير قواعد الاشتباك والمناوشات المتكررة إلى إطلاق شرارة خاطئة تؤدي إلى حرب كبيرة، ستتخطى بالتأكيد تداعيات حرب ٢٠٠٦.
وبات معروفا أن الولايات المتحدة الأميركية حضَّت إيران على إبقاء المناوشات في إطارها القائم وعدم الإنزلاق إلى حرب واسعة. ويُقال إن واشنطن، لهذا الغرض، أرسلت على الأقل رسالتين إلى طهران والكثير من الرسائل الأميركية والغربية إلى وكلاء إيران في المنطقة، خصوصاً حزب الله.
تعمل باريس على إبقاء المواجهات جنوبا تحت سقف قواعد الاشتباك المرعية منذ آب ٢٠٠٦، وهو الأمر الذي تحرّك من أجله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بين تل أبيب وعواصم خليجية وأخرى معنية من أجل حصر التوتر قدر الإمكان.
كذلك يبحث ماكرون في إيفاد مبعوثه جان- إيف لودريان لاستئناف المسعى الفرنسي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة وفاق وطني. إذ يعتقد مسؤولون في الإليزيه أن الظرف المتوتر في المنطقة، إلى جانب الفراغ السياسي وضغط الحرب، عبارة عن خليط مفيد قد يشكّل فرصة لتزخيم البحث في حل للأزمة اللبنانية، انطلاقا من إنهاء الاستعصاء الرئاسي.
لكنّ التدهور الدراماتيكي في العلاقة بين باريس وطهران والذي كرّسته محادثات ماكرون الأخيرة في تل أبيب، لن يسهّل المسعى الفرنسي، لا بل قد يضيف مزيدا من التعقيدات والعثرات. فماكرون بمبادرته التي سمّاها «حلف السلام والأمن» والمعدّة لمحاربة حركة حماس وباقي الوكلاء الإيرانيين باعتبار أنها على غرار داعش «تسعى إلى تدمير إسرائيل»، أضاف الزيت على النار في علاقته بالقيادة في طهران. ذلك أن ما يقترحه الرئيس الفرنسي مستعينا بفكرة توسيع التحالف ضد داعش الذي نشأ سنة 2014، هو بمثابة مواجهة مباشرة مع المحور الذي تنتمي إليه حماس، من اليمن حتى فلسطين مرورا بالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان. ومن شأن هذه المواجهة أن تتسبب بحرب واسعة إقليمية تختلف إختلافا جوهريا عن حرب تصفية تنظيم داعش. ولا يُستبعد أن تتحوّل تدريجا إلى حرب دينية أو حرب مقدّسة، بالتعبير العقائدي، بين مؤمنين وكفّار، وهو أمر لا يمكن لأي دولة أن تتحمّل تبعاته.
ولا يخفى أن هذا الطرح الفرنسي يعقّد مهمة الوسيط التي تسعى باريس إلى الاضطلاع فيه، فضلا عن أن طهران ليست في وارد منح باريس مكاسب مجانية، وهي التي تفضّل بطبيعة الحال ومتى يحين الوقت والظرف، أن تعقد أي صفقة محتملة مباشرة مع واشنطن، وتاليا لا لزوم أن تمرّ بباريس أو حتى تعيرها أي اهتمام.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك