ليسَ عاديّاً ما تشهده المنطقة العربيّة من مخاض ديموقراطيّ حيويّ بقدر ما هو عسير.
في المقابل، ليسَ عاديّاً أبداً ما حلّ بلبنان منذ زيارة الرئيس الإيرانيّ محمود أحمدي نجاد في تشرين الأول من العام الفائت وإلى اليوم، علماً أنّ هذه الزيارة الإستثنائية في تداعياتها على مستقبل النظام السياسيّ اللبنانيّ وأيضاً على مصير الكيان اللبنانيّ تحمل كثيراً من علامات الشبه، إن في أسلوب تنظيمها وإن في أسلوب التعبئة لها، مع زيارة "خطف النمسا" التي قام بها الفوهرر أدولف هتلر إلى فيينا مساء 14 آذار 1938. وإذا تجاوزنا الآلاف من الكيلومترات التي تفصل بين لبنان وإيران، ناهيك عن القومية واللغة وشكل العلاقة بالغرب، فإنّ علامات شبه أخرى لا تلبث أن تظهر على المستوى العقائديّ بين عقيدة "أشرف الناس" في نسختيها الإيرانية من جهة، واللبنانية الإيرانية من جهة ثانية، وبين عقيدة "أشرف القوم" القومية الإشتراكية، ولو لُطّفت علامات الشبه الأكيدة هنا بمسحات مجتزأة من الموروث الديني.
منذ زيارة نجاد إلى لبنان، وتحديداً ما قاله في مدينة بنت جبيل، تعمّق إلى حدّ غير مسبوق ذاك الشرخ في المجتمع اللبنانيّ. فالمشروع الفئوي الهيمنيّ الذي ترعاه منظومة الممانعة التي تقودها إيران في المنطقة فهم جيداً يومها أنّ عليه القيام بالمهمّة نفسها التي أوكلها النازيّون الألمان للنازيين النمساويين، أي التحرّك لأجل ضمّ النمسا إلى الرايخ الثالث. وعلى هذا المنوال، فهم الممانعون الفئويون عندنا أنّ عليهم أيضاً إستلهام معاني زيارة نجاد لإقامة نظام يشبه نظامه، أي الإنتقال من مشروع الهيمنة إلى نظام الهيمنة.
وكانت المفارقة الأولى أنّ هذا التطوّر الدراماتيكي المتسارع في الشأن اللبناني من ديموقراطية محدودة إلى ديكتاتورية مذهبية نافرة، قد أتى في ظلّ تطوّر معاكس عرفته كذا دولة عربية في الإتجاه الديموقراطيّ العام.
أمّا المفارقة الثانية، فهي أنّ القوى التي أرست الديكتاتورية المذهبية بديلاً عن الديموقراطية المحدودة وشبه اليتيمة في محيطها العربيّ والمفتقد لآليات صنع القرار داخلياً بالشكل الدستوريّ والمؤسساتيّ، كانت تتبنّى في مرحلة أولى ذاك المخاض الديموقراطيّ العربيّ وتنظر له بمنظارها هي، وبمرآتها هي، ولا تحتمل أي وجهة نظر من القوى الأخرى، قوى 14 آذار، لا إذا كانت هذه الأخيرة تقرأ الحدث العربيّ من موقع المفاضلة بين إعتدال وغلوّ، ولا إذا كانت تقرأ الحدث من موقع المقارنة بين الحدث الإستقلاليّ اللبنانيّ لعام 2005 وبين ربيع الشعوب العربية الحاليّ. لكن في النهاية، عادت قوى الممانعة، وذهبت إلى إتهام روح 14 آذار، وروح سمير قصير بالدرجة الأولى، بأنّها هي وراء ربيع الشعوب العربية الحاليّ.
ثم جاءت المفارقة الثالثة، فقوى الممانعة تنزعج عندما تتهم بأنّها قامت بإنقلاب أمنيّ، وتصرّ على الطابع الدستوريّ للتحوّل الذي بدّل موقع الأكثريّة، إلا أنّها لم تبخل في الأشهر الثلاثة الأخيرة بتوجيه إنذارات مبطنة حيناً ومكشوفة حيناً آخر لرئيس الجمهورية وللرئيس المكلّف، كلّ ما فيها هو التذكير بأنّ ما قامت به القمصان السود هو إنقلاب، والولاء للإنقلاب واجب لأنّه يستند إلى معيار القوة، قوّة العنف المسلّح الفئويّ.
أمّا كبرى هذه المفارقات فإنّ قوى الممانعة والمقاومة لم تنتبه على أنّ إنقلاب القمصان السود - منذ زيارة نجاد قد أحدث شرخاً فظيعاً بين اللبنانيين إلى درجة باتت تعرقل عملية تحويل المشروع الهيمنيّ الفئويّ إلى نظام هيمنة فئوية مسلّحة تمتلك حدّاً أدنى من الإستقرار ويمكنها أن تتنكّر وراء مؤسسات دستوريّة شكليّة. وهكذا دخلنا في حالة غريبة عجيبة هي حالة نظام هيمنة مع وقف التنفيذ، هيمنة معلّقة إن شئنا، ولا نعرف أي تدهور يمكن أن تدخلنا فيه هكذا حالة لاحقاً، بعد أيّام، أو أسابيع، أو أشهر.
وهذه المفارقة الكبرى تعني أنّ هناك شيئاً أساسيّاً تصدّع، وهو العقد الإجتماعيّ بين اللبنانيين، أي العقد الذي على أساسه يتعاهد اللبنانيون سواء على مستوى الجماعات أو على مستوى الأفراد بأنّ السلام الأهليّ هو خيارهم جميعاً وأنّ العيش سويّة وبسلام هو خيارهم جميعاً. وإذا كان هناك طرف يتحمّل المسؤولية الكبرى لجهة هذا التصدّع، وهو الطرف النجاديّ في لبنان، إلا أنّ ذلك لا يلغي مسؤولية جماعية لناحية عدم الرغبة في الإعتراف بهذا التصدّع، في حين أنّ الإقرار بالواقع الحاصل والمعاش يومياً في لبنان اليوم هو المدخل الأساسي لكلام جدّي في السياسة، أي لحوار حقيقيّ وفي الصميم يطرح المسألة اللبنانية في العمق، أي مسألة كيف نبني وطناً لا تهيمن فيه فئة على أخرى، ولا تتداول الفئات الهيمنة بين بعضها البعض، ولا تخاف فئة من أن تستبد بها فئات أخرى إذا ما صودرت منها مفاتيح الهيمنة، ولا تكابر فئة على طابعها الفئويّ بادعاء كلمات مستعارة بشكل اعتباطيّ من التاريخ الأوروبيّ الحديث، كمفردة "مقاومة"، بل حتى بشكل مغاير تماماً للمسار الذي اتخذته هذه المفردة في انتقالها من حركات المقاومة الأوروبية إبان الحرب العالمية الثانية إلى حركات التحرر الوطنيّ ضدّ الإستعمار الأوروبيّ بعد الحرب.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك